عقدت الحكومة اللبنانية، أول من أمس، اجتماعها الأخير في مرحلة ما يسمى بالشغور الرئاسي، وانتقال صلاحيات رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء مجتمعاً. واستطاعت هذه الحكومة أن تؤمّن ما تحتاجه هذه المهمّة من توافق كامل، وهذا ما انتهى عمليّاً في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء. وذلك يعني أنّ الشغور قد أصبح وطنيّاً وشاملاً، وأصبحنا بدون رئيس وبدون تشريع، إذ أصبح كل وزير بعد الآن سيتصرّف في وزارته على هواه.. وبذلك نكون قد أصبحنا بدون رئيس وبدون جمهورية.
ربما يشعر البعض بالقلق من دخولنا هذه الحالة في ظلّ الأوضاع الأمنيّة الخطيرة التي يعيشها أهالي البقاع الشمالي وما يدور حول عرسال وجرودها ومحيطها اللبناني والسوري وما قد ينتج عنها من تداعيات قد تأخذ لبنان الى الميدان السوري والعراقي واليمني، ونكون قد أضعنا الوقت بالشطارات والحديث عن ضمانات دولية ببقاء لبنان بعيداً عن النزاعات الدائرة من حوله رغم انخراطه فيها حتى الثمالة واستقباله لأسوأ نتائجها، ألا وهي النزوح السوري والعراقي بالملايين. وإنّني أيضاً سأكون قلقاً جداً إذا ذهبت الأمور بهذا الاتجاه.
البعض الآخر يرى أنّ الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء كانت نهاية إدارة الفراغ الرئاسي أو الشغور، وأنّنا دخلنا عمليّاً في مرحلة البحث الجدّي عن رئيس. وهذا يستدعي توقف مجلس الوزراء عن ممارسة صلاحياته. وإنّّ كل القوى السياسية المحلية تعرف جيداً أنها ليست ناخباً في رئاسة الجمهورية لا في هذا الاستحقاق ولا في الاستحقاقات السابقة منذ الاستقلال حتى الآن، ولم ننتخب ولو لمرة واحدة رئيساً صنع في لبنان.
لا شكّ أن الاحتمال الثاني هو الأرجح، أي أنّنا دخلنا جديّاً في مرحلة انتخاب رئيس جديد للبنان، وعلينا أن نتابع بدقة الأطراف التي ستسجّل على لائحة الناخبين في رئاسة الجمهورية.. الطرف الأول أي الأميركي، فهو ناخب مَلِك وسيحدّد موقفه الانتخابي بعد الدورة الأولى. الطرف الآخر هو الدوليين والاقليميين، والبارز حتى الآن من الدوليين فرنسا في المقدمة على قاعدة فصل الانتخابات الرئاسية اللبنانية عن الوضع في سوريا، ثم البريطاني والروسي اللذان يريدان أن تكون الانتخابات الرئاسية في لبنان جزءا من العملية الانتقالية في سوريا ومعهم الناخب الإيراني، أمّا الفاتيكان كناخب كبير يؤيّد الموقف الفرنسي واعتبار الرئاسة اللبنانية مرتبطة بالمقدسات المسيحية في فلسطين بعد اعترافه بالدولة الفلسطينية، إذ كانت بين بيروت والقدس خمس رحلات طيران يومية قبل الخامس من حزيران ٦٧. ويتلاقى الناخب الفرنسي والفاتيكاني مع الناخب العربي السعودي الذي يريد خروج لبنان نهائياً من الوصاية السورية السابقة وأزمتها الحالية، وهناك شيء من التأثير غير الواضح حتى الآن للناخب العربي المصري الذي يرى في الأزمة السورية مدخلاً لدور جديد في المشرق كان قد فقده منذ الانفصال.
إسرائيل أيضاً تريد أن تكون ناخباً، خصوصاً وأنها مؤسّس لهذا الواقع الإقليمي الجديد، فهو من مكوناتها وموضوعاتها في المنطقة. وإسرائيل كانت حاضرة في الانتخابات الرئاسية منذ العام 48 وحرب فلسطين وتأثير ذلك على الولاية الثانية للرئيس بشارة الخوري وظهور نجم فتى العروبة الأغرّ الرئيس كميل شمعون في العام 1952، وأثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ونتائجه على الوحدة العربية وانتخاب الرئيس فؤاد شهاب عام 1958، ثم في انتخابات العام 1970 عبر نتائج هجومها في العام 19٦٨ على مطار بيروت بعد عام من النكسة العربية. وكذلك كانت ناخباً عام ٧٦ عبر التأثير المباشر لمنظمة التحرير الفلسطينية في الانتخابات الرئاسية وهي موجودة في لبنان لأسباب تتعلق بالنزاع مع اسرائيل، ثم في العام 19٨٢، إذ جرت الانتخابات الرئاسية والجيش الاسرائيلي في بيروت، وفي انتخابات 19٨٩ كانت تحتل نصف لبنان، وجاءت انتخابات 19٩٨ على إيقاع عملية عناقيد الغضب وتفاهم نيسان 19٩٦، وكان انتخاب الرئيس في العام ٢٠٠٨ من نتائج الواقع السياسي للعدوان الإسرائيلي عام ٢٠٠٦ ، واسرائيل ستحاول أن تكون ناخباً أيضاً في هذا الاستحقاق.
نستطيع أن نقول أنّ التوازن بين الناخبين الدوليين والاقليميين دقيق جداً. وإن البحث عن مرشّح كل فريق بما يتلائم مع رغبات الناخبين وبقدر ما يحقق من موضوعية لهذا الاتجاه أو ذاك. فلا بدّ من وجود مرشح يتناسب مع مواصفات المرحلة الانتقالية في سوريا، أي بمعنى أوضح ربط التنازلات في سوريا بمكاسب لبنانية رئاسية، أي انتخاب رئيس يطمئن بيئة النظام السوري ويعوّض عليها خسارتها للنظام في سوريا بما يشبه التعويض على النظام المصري بعد الانفصال عام 1961 بخروجه من سوريا وبقائه في لبنان.
أمّا المرشح الآخر فهو الذي يطمئن كل اللبنانيين أنه لا علاقة للبنان بما سيحدث في سوريا، وقيام دولة لبنان الحيادية، وتنفيذ القرار 1701 على امتداد الحدود اللبنانية مع سوريا واسرائيل، وتعميم نتائجه على البقاع كما هو الحال في الجنوب.. يعني مرشّح يشبه العميد ريمون إده والعودة الى الدولة الميثاقية بين المسيحيين والمسلمين بعيداً عن الثورات المصرية والأممية والفلسطينية والإيرانية والإسلامية، وهي ثورات استوطنت لبنان عقوداً طويلة وكانت نتائجها واحدة على الدولة والكيان والإنسان.
إنّ ما نشهده الآن في لبنان على المستوى السياسي والحكومي والنيابي والتفاهمات والتوريثات الجديدة في الزعامات، وأيضاً ما قد نشهده من تطورات أمنية أو عسكرية كلّها تتمّ في إطار الحملة الانتخابية للناخبين الكبار الإقليميين والدوليين. ونتمنى أن لا تكون أكلافها عالية. ومن المؤكد أنّه سيكون لنا رئيس لكنه لن يُصنع في لبنان!