عندما تتلاشى مؤسسات الدولة، وينعب البوم في القصر الجمهوري، ويتحوّل مجلس الوزراء الى سوق عكاظ، ومجلس النواب الى تكيّة من تكايا السلطان، وعندما تصبح القاعدة، ارتكاب التجاوزات والسمسرات والمخالفات في اي مشروع يحمل طابع المال والانفاق، وعندما يسلب من مؤسسات الرقابة مثل مجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة، الحق في المراقبة والمحاسبة والتعيين وعندما يصبح كل وزير دكتاتوراً على وزارته، ورئيساً للجمهورية، وعندما تحرم البلاد من موازنة عامّة لمدة عشر سنوات، ولا «ينهزّ» احد لهذه الجريمة، وعندما تنفق الدولة اكثر بكثير مما تجبي، وعندما يتغيّب نواب عن مجلس النواب لمدة أشهر وسنوات، دونما اي محاسبة او تشهير، وعندما يتهمّ المتظاهرون، المسؤولين بأنهم «حرامية» وفاسدون، ولا يهتمّ احد بالانتفاض لكرامته، كأن الامر لا يعنيهم، وكأن «الدني بالنسبة اليهم عم تشتي» لا اكثر ولا اقل، عندها يصحّ القول أن الدولة اللبنانية، ليست على طريق الانهيار، بل هي قد انهارت فعلاً وماتت، كلّ ما في الأمر ان النعي وتوقيت الدفن والتعازي تأخرا فحسب، لفراغ الموازنة من الاموال.
عند حصول مثل هذه المفاسد والكوارث، التي لم تجتمع يوماً في دولة صغيرة، كما تجتمع اليوم في لبنان، يمكن عندئذ تصديق ما يعلو من اصوات عند الناس، بأن الفريق الذي يرفض استقلال لبنان ونظامه الديموقراطي البرلماني، ويعمل من اجل نظام احادي تسلطي امني، هو الذي يقف وراء ما يجري في لبنان، مستفيداً من تهافت الطبقة السياسية الحاكمة، على جني المال الحرام من جهة، وتأزيم الاوضاع الداخلية من جهة ثانية، وجعل المواطن اسير الخيار بين الموت السريع والموت البطيء الذي نشهده اليوم في الفساد المستشري، والفراغ شبه الشامل، والتعطيل المستمر لاعضاء الدولة الحيوية.
ان كارثة النفايات، ومذهبة الادارات والمؤسسات، وحشرجة الاقتصاد، والقلق على العملة الوطنية، وتهديد تسونامي النازحين السوريين، و«ثورة» الفقراء والمعلمين والعمال، وسهولة الاجرام، و«خرسنة» القضاء، على أهميتها ونتائجها المدمّرة ليست سوى نتيجة لوجود دولة ضعيفة واحزاب قويّة، وحتى تستقيم الأمور، ويزول شبح الموت، يجب تعديل هذه المعادلة، بأن تكون الدولة، هي الجهة القويّة الوحيدة، بجيشها وقواها الأمنية، وقضائها، ودستورها وقوانينها، وعندئذ فقط يستعيد لبنان نظامه وسيادته واستقراره وحريته وأمنه ومؤسساته التي بناها الرئيس اللواء فؤاد شهاب، وحوّلتها الطبقة السياسية التي تناوبت على الحكم قبل الوصاية السورية وبعدها، الى مزارع فساد وافساد و«داعشية» تسلّط وترهيب واستغلال ومحاصصة، بحيث اعادوا لبنان سنوات الى الوراء، عما كان عليه حتى في الخمسينات والستينات.
لا يمكن ان ينهض وطن وتقوم دولة، وهناك احزاب وطوائف ومذاهب وشخصيات، يعتبرون ذواتهم اكبر من وطنهم، ويتصرفون بهذا المنطق.
لا تفتّشوا عن علّة لبنان، لأن علّته معروفة ومعيوشة، فالدولة التي تنتصر عليها الزبالة، لا تكون العلّة في الزبالة، بل للذي يقف وراءها ويأكل من جناها.