هي المرة الأولى الذي تخوض فيها المملكة العربية السعودية حرباً مباشرة وبهذه الطريقة، ذلك أنّ ايران أضحت داخل البيت السعودي من خلال قوة منظمة ومتماسكة وتتّجه لأن ترتدي ثوب الشرعية. لكنّ الحوثيّين بالغوا في استثمار اختلال ميزان القوة لصالحهم، وارتكبوا خطأ في الحسابات.
قيل إنّ طهران كانت متردّدة منذ البداية حيال سَعي الحوثيين للسيطرة على صنعاء خشية ردود الفعل، تماماً مثلما كان موقفها في البحرين عندما أرادت المعارضة الوصول الى القصر الملكي.
لكنّ حلفاء ايران اليمنيين سيطروا على العاصمة من دون حصول ردود فعل مقلقة، إلّا أنّ فرار الرئيس اليمني الى عدن حيث بقيَ يمثّل الشرعية ويمارس دوره على هذا الاساس، إضافة الى الانهيار العسكري للقوى المؤيدة له، دفع الحوثيين لاجتياز الخطوط الحمر على أساس أنّ عدم حصول التوقيع بعد الاتفاق المنتظر بين واشنطن وطهران إنما يشكّل نقطة لصالحهم في ضبط ردود الفعل.
لكنّ الرياض ردّت مستندة الى المعطيات الآتية:
1- القبول بسيطرة ايران على كامل اليمن في ظل الاحتقان الكبير ما بين الشيعة والسنّة سينعكس فوراً اضطرابات في الداخل السعودي، خصوصاً أنّ ثلث اليمنيّين يعيشون في السعودية وسط التداخل الكبير بين البلدين.
2- إتجاه حلفاء ايران للسيطرة على خليج عدن، وبالتالي التحكّم بجنوب قناة السويس. وهو ما يعني، اضافة الى المساس المباشر بالمصالح المصرية الحيوية، إمساك ايران بالشريان البحري الثاني لناقلات النفط بعد مضيق هرمز والتحكّم بتصدير النفط الى الاسواق العالمية. وهو بالتأكيد ما لا تريده واشنطن على رغم أنّ طهران لم تُهدّد فعلياً المصالح النفطية العالمية في أيّ مرحلة سابقة.
وقد سنحت الفرصة لترجمة المشاورات التي كانت قد بدأت منذ مدة ما بين السعودية وباكستان من جهة، والسعودية وتركيا من جهة اخرى، لتشكيل تحالف اقليمي يواجه ايران بعد توقيع الاتفاق النووي، يضاف اليه بطبيعة الحال مصر.
لذلك، جاء الرد العسكري من خلال جبهة عريضة حملت ضمناً عنوان الرد السنّي الشامل في وجه ايران ويمتدّ من باكستان الى تركيا فالمغرب العربي مروراً بمصر ودول الخليج، ويحمل هذا الاصطفاف الجديد أيضاً استياء ضمنياً من الاتفاق الذي تزمع واشنطن توقيعه مع طهران.
وعلى رغم كلّ ما تقدم، تبدو الأمور محكومة بسقفين:
الأول هو أنّ للعمليات العسكرية حدوداً تقف عند إبعاد الخطر الحوثي عن عدن وصنعاء وإرساء توازن داخلي يسمح بالشروع في تسوية سياسية لليمن وفق ما كان مطروحاً سابقاً، أي المشاركة في تقاسُم السلطة بين كلّ المكونات اليمنية. وستساعد العملية العسكرية الحاصلة الآن السعودية في رعاية هذه التسوية لاحقاً كونها تدخل اليها بعد «انتصار» عسكري، كما أنّ خطر «القاعدة» الذي سيتصاعد بسرعة سيدفع في هذا الاتجاه.
السقف الثاني أنّ الاتفاق الاميركي – الايراني على النووي سيوقّع قريباً بعدما بَدا أنّ ظروف إنضاجه وصلت الى الذروة، وأنّ الوقت بدأ يحمل عوامل جدية للخربطة. وبالتالي، على السعودية انتظار الوقت والرهان على وصول الجمهوريين الى البيت الابيض بعد نحو سنة ونصف السنة لتصعيد الهجوم في وجه ايران، ولا حاجة للكثير من الجهد للتأكيد أنّ أحداث اليمن شكلت امتداداً للصراع الكبير الدائر في المنطقة. وخلال الاسابيع الماضية حاولت ايران تجميع أكبر قدر من الاوراق الميدانية لتُعزّز حضورها على طاولة التسويات بعد توقيع الاتفاق النووي.
وعَدا خطأ التقدير الذي يتحمّل مسؤوليته الحوثيون، فشلت ايران في امتلاك ورقة تحرير العراق من «داعش» لوحدها. هكذا تعثّرت معركة تكريت التي أشرف عليها مباشرة الجنرال قاسم سليماني، ولم تستعد زخمها إلّا بعد الاستعانة بالمساعدة الجوية الاميركية التي ستكلّف ايران القبول بقواعد عسكرية اميركية في المناطق العراقية القريبة من حدودها، أضف الى ذلك اقتراب العراق من نظام فدرالي لا تُحبّذه ايران كثيراً.
وفي سوريا خسرت ايران أيضاً بعضاً من الاوراق الميدانية التي كانت قد كسبتها سابقاً، ذلك أنّ المعارضة نجحت في السيطرة على منطقة بصرى الشام ما يُحسّن وضعها الميداني في مناطق درعا وجنوب سوريا، إضافة الى إدلب.
بالتأكيد كانت طهران تفضّل الوصول الى لحظة توقيع النووي والدخول في مرحلة ما بعده وهي في ذروة نجاحاتها، لكنّ خسارتها هذه الاوراق الثلاث لا يعني أبداً أنها فقدت أرجحيّتها الميدانية لا بل على العكس.
وفي لبنان لا تبدو الامور مطمئنة، فعند الحدود مع عرسال، أي جرود القلمون، صرفَ «حزب الله» النظر على ما يبدو عن معركة الحسم العسكري، لكنّ ذلك لن يلغي حصول معارك عنيفة تهدف الى تحسين المواقع الميدانية وانتزاع تلال تعتبر أساسية. والجيش اللبناني يريد كذلك استعادة الكثير من التلال المهمة عسكرياً والمحيطة بعرسال ورأس بعلبك لتحصين الداخل اللبناني.
أمّا في الزبداني، فيخوض «حزب الله» والجيش السوري معركة حسم عسكري. لكنّ الأهمّ من ذلك الواقع الأمني الداخلي. وصحيح أنّ كلّاً من «حزب الله» وتيار «المستقبل» يحرصان على استمرار طاولة الحوار لضمان الاستقرار الامني، إلّا أنّ ملامح الاغتيالات بدأت تلوح في الافق.
ذلك أنّ معلومات موثوقة وردت عن بدء جهة لبنانية بتنظيم خلاياها الامنية استعداداً لتحرّك قريب. وحسب هذه المعلومات، فإنّ هدف الاغتيالات هو التعديل في التوازنات السياسية الحالية، خصوصاً على الساحة المسيحية لملاقاة مرحلة التسويات لاحقاً وفق معادلة جديدة بعد شطب بعض الرموز المؤثرة.
وتبدو واجهة «داعش» عاملاً مشجعاً، حيث يجري تنفيذ عمليات أمنية تضع بصمات منفّذيها بسبب سهولة توجيه أصابع الاتهام الى «داعش» الذي يمتهن هذا الاسلوب.
وقد جرى تزويد العواصم الاجنبية المهتمة بلبنان بمعلومات دقيقة في هذا الشأن. في وقت اتخذ «حزب الله» قراراً بمشاركة العماد ميشال عون في خطوة تجميد المشاركة في الحكومة في حال قرّر عون ذلك على خلفية ملف التعيينات الأمنية.
باختصار، ما بين توقيع النووي وولادة التسويات في المنطقة مرحلة من الضغط والاضطرابات الميدانية، فيما لبنان يدخل خطر الاغتيالات السياسية.
ما أقرب مرحلة 1988 – 1990 بكلّ أبعادها ورسائلها ومآسيها، ولَو وفق إخراج مختلف.