الخطاب السنوي الأول للرئيس دونالد ترامب أمام الكونغرس عن حال الاتحاد جاء على صورة رجل الأعمال ومثال السلوك الرئاسي: شيء من انعكاس النرجسية والشيزوفرينيا السياسية، وشيء من ضرورات الواقعية في ادارة السلطة. ولم يكن بين التوقعات أن يخلو الخطاب مما تسمّيه المستشارة في البيت الأبيض كيليان كونواي حقائق بديلة كتعبير عن وقائع متخيّلة ومبالغات وأكاذيب. ولا كان من الصعب على ترامب الذي فاجأ الأميركيين باللهجة التصالحية في نصّ الخطاب أن يعود بعد ساعات الى هوايته المفضّلة في التغريدات الانتقادية التي تكرّس الخصومات.
ذلك ان ما رآه ترامب هو ان حال الاتحاد رائعة في الداخل: نمو اقتصادي، خلق وظائف بالملايين، أكبر خفض ضرائب، وأفضل وقت لكي نعيش الحلم الأميركي. وما تجاهله هو ان حال أميركا في الخارج مريعة: حلفاء يتخوّفون من تبدّل مواقفها ولا يثقون بالتزاماتها. خصوم لا يخافون من تهديداتها ولا يترددون في تهديدها. والأكثرية الساحقة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تصوّت في الجمعية العمومية ضدّ قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل، وما كرّره هو ان أميركا تواجه أنظمة سياسية مارقة مثل ايران وكوريا الشمالية، وتنظيمات ارهابية مثل القاعدة وداعش، ودولا منافسة في مرتبة منافسين استراتيجيين مثل الصين وروسيا. والحلّ عنده هو معادلة خلاصتها الضعف هو الطريق المضمون الى النزاع، والقوة التي لا تضاهيها قوة أخرى هي الوسيلة المضمونة لدفاعنا.
أما الدعوة الى اللقاء بين الجمهوريين والديمقراطيين على أرضية مشتركة، فانها لعبة تاكتيكية. ومن الصعب أن يقتنع بها الديمقراطيون. والأصعب هو أن يتخلّى ترامب عن السلاح الذي خاض به معركة الرئاسة: اللعب على الانقسام الداخلي، والعمل على تعميقه، والتركيز على هواجس البيض في الطبقتين الوسطى والعاملة. فلولا الانقسام لما وصل الى البيت الأبيض رجل أعمال كثير الفضائح وبلا خبرة سياسية، وأي توجه جدّي نحو الوحدة الداخلية ينزع من يده سلاح التحريض ويحرمه من الفوز بولاية ثانية.
لا بل ان ما يمكن أن يسمّى مبدأ ترامب هو الاقتناع بأن العالم ميدان للتنافس وليس أرضا مشتركة للتعاون. وهذا ما عبّر عنه مستشار الأمن القومي الجنرال ماكماستر وكبير المستشارين الاقتصاديين غاري كوهن في مقال مشترك نشرته الوول ستريت جورنال خلاصته ان رؤية ترامب هي ان العالم ليس مجتمعا كونيا بل ساحة للتنافس على تأمين المصالح. وهو جوهر شعار أميركا أولا.
ولم يكن من المفاجآت أن يردّ مؤلف كتاب الحرب من أجل الشرق الأوسط الكبير: تاريخ عسكري أندرو باسيفيتش بالدعوة الى إنقاذ أميركا أولا من ترامب.