IMLebanon

لبنان نحو جهنّم مناخية

 

 

حتى اللحظة لم يشهد لبنان درجات حرارة متطرّفة أو جفافاً أو موجات حارّة ممتدّة، إلا أنّنا لسنا بمأمن عمّا يجري على الكوكب، وإن كان بعيداً إلى الآن، فالطبيعة مترابطة، وكلّنا سندفع ثمن التغيّر المناخي الذي لم نساهم فيه كشعوب ودول. الأحداث تتسارع، وما كان يحذّر منه العلماء من دون أن يشعر به النّاس أصبح أكثر تأثيراً، وهذا ما يؤكّده صيف 2023 اللاهب. على لسان الأمين العام للأمم المتحدة، نحن نسلك الطريق السّريع نحو الجهنم المناخي، ونواصل الضغط على دواسة السّرعة

 

لم يخالف المثل اللبناني القائل «بتموز المي بتغلي بالكوز» الواقع. درجات حرارة مرتفعة، وصيف ساخن تشهده منطقة الحوض الشرقي للمتوسط، ولكن «لا شيء استثنائياً حتى اللحظة»، إذ لم تسجّل مصلحة الأرصاد الجويّة حتى اليوم درجات حرارة غير طبيعية، تفوق المعتاد لهذا الوقت من السّنة، رغم أنّ حزيران الماضي عُدّ «الأشد سخونة على كوكب الأرض» منذ بدأت الأرصاد الجويّة بتدوين سجلّات الطقس، والثلاثاء الأول من تموز الجاري كان اليوم الأكثر سخونة على سطح الكوكب، وذلك لأن «لبنان على طرف القبّة الحرارية المسيطرة على الجزء الشمالي من الكرة الأرضية».

 

الطقس الحار ليس إلّا بداية الكارثة. فقد كسر ارتفاع درجة حرارة الكوكب عام 2023 حاجز 5.1 درجات مئوية إضافية، رغم أنّ الحرارة، بحسب الدراسات، لم ترتفع أكثر من 1.2 درجة مئوية خلال 6500 سنة سابقة لعام 1970. بالتالي، «الكوارث البيئية ستتلاحق وتتسارع على الكوكب، من الفيضانات المدمّرة في آسيا، إلى درجات الحرارة القياسية في القارة الأميركية، وصولاً إلى الجفاف الأكبر في أفريقيا»، بحسب تقارير الأمم المتحدة.

حتى اللحظة في لبنان، «لا نشهد حالة استثنائية، بل طبيعية، فهذه حرارة تموز العادية»، يقول رئيس دائرة المناخات في مصلحة الأرصاد الجويّة الدكتور طارق سلهب. فـ«خلال عام 2015 سجّلت محطة بيروت للأرصاد درجات حرارة أكثر حدّة وصلت إلى حدود الـ38 مئوية، وهذا ما لم يحدث حتى اللحظة». إلا أنّ «الموجات الحارّة ستتكرّر، وستزداد حدّتها، وتترافق، ابتداءً من الأحد المقبل، مع رياح حارة محوّلةً الطقس في لبنان إلى صحراوي»، بحسب خبير الأرصاد الجويّة المهندس علي جابر. ذروة الموجة الحارة الآتية ستكون الثلاثاء والأربعاء المقبلين، وفيهما قد تصل «درجة الحرارة المحسوسة ساحلاً إلى 42 درجة مئوية، متجاوزةً المعدّلات الطبيعية، بسبب الرطوبة العالية التي تتخطى الـ95% نهاراً. أمّا في المناطق الداخلية، فستتجاوز الحرار الـ45 درجة، مترافقةً مع رياح ساخنة، وجافة».

«لن تكون هذه الموجة الأخيرة خلال هذا الصّيف»، يحسم جابر. ومن جهة أخرى يرى في «زيادة المدّة الزمنية للموجات الحارّة أمراً غير طبيعي، إذ لم يتجاوز عدد الأيام الحارّة سنوياً في السّابق الـ5. أمّا اليوم فنتكلّم عن أسابيع ساخنة». يضيف جابر، «المنطقة تحت سيطرة ما يُعرف بالمنخفض الجوي الهندي الذي يستقطب المرتفعات الجوية الحارة من المناطق المحيطة. ولبنان بالتالي سيصبح تحت رحمة الرياح الصحراوية الحارة القادمة من شبه الجزيرة العربية، ما سيرفع الحرارة أكثر». هذا من الشّرق، أمّا من الغرب، وبالإضافة إلى ما سبق، فسيُحاصر لبنان أيضاً بالكتل الحارّة بعد تحرّك ما يُعرف بـ«المنخفض السّوداني»، وبالتالي ستشهد منطقة شاسعة ممتدة من غرب أوروبا إلى شرقها، وكامل حوض البحر المتوسط أياماً حارّة، قد تمتد تأثيراتها حتى «آب اللّهاب».

 

هذا المشهد لا يرى فيه عدد من خبراء الأرصاد الجويّة مشاكل مقلقة، فـ«الأمر طبيعي حتى الآن، رغم الحرارة العالية». ولكن المشكلة، بحسب سلهب، في أجزاء أخرى من العالم تمتد من غرب أوروبا، وصولاً إلى السواحل الغربية للبحر الأسود، حيث تتخطى درجات الحرارة المسجّلة الأرقام الطبيعيّة. ويعيد سلهب السّبب الأساسي في الموجات الحارّة التي تشهدها تلك المناطق، كما لبنان، إلى ظاهرة مناخية طبيعية تُعرف باسم «إل نينو». وتتكرّر هذه الحالة كلّ 4 سنوات مرّة، بعد أن تخلف ظاهرة «إل نينا»، الأكثر برودة، و«هاتان الظاهرتان تتداوران بشكل دائم».

 

ويُعرف عن «إل نينو» أنّه نمط مناخي يحدث في المنطقة الاستوائية في المحيط الهادئ مرة كل عدة سنوات، ويتميّز بارتفاع درجة حرارة سطح المحيط. وتؤدي هذه الظاهرة إلى تغيرات في النظام الجوي والمناخ في مناطق مختلفة حول العالم، بما في ذلك الجفاف في بعض المناطق، والفيضانات في مناطق أخرى. و«الإنسان ليس المسؤول دائماً عن ارتفاع درجات الحرارة، إذ لا يمكن لأنشطته مهما كانت متطرفة رفع درجة مياه المحيطات».

 

ولكن، سيرتبط الاحترار العالمي الذي تسبّب به الإنسان بظاهرة طبيعية هذه المرّة، «إل نينو»، ليقوما بالتكامل والتضامن برفع حرارة الكوكب أكثر، وزيادة معدّلات ذوبان الجليد القطبي، إذ «وصلت الزيادة هذه السّنة إلى 20% إضافية»، بحسب سلهب، ما «سيؤثر على حجم المنخفضات الجوية والمرتفعات، وستؤدي لاحقاً إلى توازنات مناخية جديدة».

من جهة أخرى، «ستستمرّ ظاهرة إل نينو طويلاً»، يشير سلهب، ولكن، «لن نتكلّم عن حالة مناخية جديدة في لبنان، بل نتوقع حرارة مرتفعة نسبياً، وهذه الحالة الطبيعية». أما في الحوض الشّرقي للمتوسط فـ«الوضع الحالي متوقع. وبالأرقام، الموسم عادي جداً، ولا موجة حر قوية وممتدّة». يحذّر سلهب من أنّ «موجات الحرّ الممتدّة لأسابيع وشهور تُعتبر مؤشراً إلى الجفاف، وهي ليست مسألة عابرة». وبعكس أوروبا، حيث جفّت الأنهر، واستمرّت موجات الحرّ لأكثر من 30 يوماً، «لم نشهد هذه الظواهر في منطقة الحوض الشرقي للمتوسط، وفي حال دخلنا في هذه الحالة على الدولة التدخل بشكل فاعل، ولا سيّما أنّنا سنصبح أمام تهديد على مستوى الأمن المائي، فالمياه الجوفية حتى سينخفض مستواها».

 

القبة الحرارية والمنخفض الجوي الهندي

 

تداولت وسائل الإعلام خلال الأيام الماضية مصطلح «القبة الحرارية» لشرح الأسباب الكامنة خلف الارتفاع الكبير في الحرارة. والتفسير العلمي لهذه الظاهرة هو أن طبقات الجو العليا للغلاف الجوي، وتُعرف بـ«الستراتوسفير»، تكون فيها درجات الحرارة متدنية جداً، بعكس طبقات الجو الدنيا المعروفة بـ«التروبوسفير»، حيث تكون درجات الحرارة عالية. ويؤدي الفرق الحراري بين الطبقتين إلى تشكّل منطقة ضغط جوي عال، فيصعد الهواء الساخن من الأسفل إلى الأعلى، ويصطدم بمنطقة الضغط الجوي العالي ويبقى فيها، ولأن الشمس تزيد من سخونته، تدفعه منطقة الضغط الجوي العالي إلى الأسفل مرّة أخرى، وعند ذلك يصبح مضغوطاً أكثر، ويصغر حجمه ويصبح أكثر سخونة.

في منطقتنا، يعرّف خبراء الطقس القبة الحرارية باسم آخر هو «المنخفض الجوي الهندي»، والمتمركز فوق شبه الجزيرة العربية. وهو حالة جويّة موسميّة حارّة تأتي من جنوب شبه القارة الهندية، كلّما انخفض الضغط فيها، وتفاعلت مع أشعة الشمس، تمدّ كتلها الحارّة أكثر. اليوم، وصلت تأثيراتها إلى البحر الأسود، وشرق أوروبا، وليبيا. أمّا عند ارتفاع ضغطها فينحسر تأثيرها.

إلا أنّ الأرقام تشير إلى استمرارها في تسعير المنطقة، منذ أوائل تموز الجاري، كان ضغطها يراوح بين 995 و998 هكتوباسكال (وحدة قياس للضغط الجوي). وفي منتصف الشهر، انهارت قيم الضغط فيه إلى 992 هكتوباسكال، ما يعني اشتداد القبضة الحرارية على المنطقة العربيّة بأكملها.