Site icon IMLebanon

شتّي يا دنيي… توقّعات!

 

مطبوخ وبواحير ونشرات علمية وأخرى مغلوطة

 

هناك طرفة يتداولها كثيرون من خلف البحار ساخرين من توقعات النشرات الجويّة ومفادها أن الطقس سيكون مشمساً إلا في حال… أمطرت. طرفة معبّرة للغاية. فالترصّد المثالي لحالة الطقس صعب في أحسن الأحوال. وكيف إذا اختلطت- خصوصاً في الشتاء- الدقة بالتكهّنات. الأرجح أنكم سمعتم عناوين مثل «القطب الشمالي يهاجمنا» أو «تسونامي إيسلاندي يكتسحنا». فلا تتفاجأوا. هي عبارات راجت مؤخّراً في نشرات جوّية تنمو كالفطر. أخبار متناقضة، مصادر وهمية وتهويل لا يمت غالباً إلى العِلم والمنطق بصِلَة. فَمَن نصدّق ولماذا؟

فصل الشتاء أصبح قاب قوسين أو أدنى. وجرياً على العادة في السنوات الأخيرة، لا بد من أن يترافق هطول المتساقطات مع تساقط مغالطات كثيرة حول أحوال الطقس. ليست شاشات التلفزة مسرح «التساقط» الوحيد حيث أن وسائل التواصل الاجتماعي «بتكفّي وبتوفّي». هناك من جزم للبنانيين قبل أسابيع أن «الشتاء المقبل سيكون قاسياً جداً». ودبّ الهلع بين المواطنين. كيف لا وكثيرون منهم حائرون أصلاً بطريقة تأمين وسائل التدفئة. سألنا ونسأل ونواصل: هل يمكن توقّع الفصول والمواسم قبل موعدها؟ «أوقفوا رجاء المزايدات والمهزلة الحاصلة على صعيد توقّعات الأحوال الجوّية… اللبناني تكفيه مآسيه الحياتية الأخرى». صرخة أطلقها مدير عام مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية الدكتور ميشال افرام، ردّاً على سؤالنا. فماذا يخبرنا أيضاً؟

 

التوقّعات – المهزلة

 

منذ العام 1993، تقوم مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية بإصدار نشرات الأرصاد الجوّية والإرشادات لكنها توقّفت عن ذلك منذ سنة تقريباً نظراً لفوضى النشرات والتوقّعات، بحسب افرام. لا بل أكثر من ذلك. فقد طالب وزارات الإعلام والداخلية والأشغال التدخّل، على غرار ما جرى في الأردن، حيث فُرضت عقوبة سجنية وغرامة مالية على كل من يصدر نشرة مغلوطة. الهدف طبعاً وضع حدّ للنشرات المضخّمة والمثيرة للذعر. وتابع افرام: «الأمور ما زالت غير مراقبة وغير علمية وغير صحيحة. للأسف الثقافة غائبة في هذا السياق. فالناس يتبعون الشخص لا العِلم في وقت تُعتبر فيه مصلحة الأرصاد الجوّية في مطار بيروت الجهة الوحيدة المخوّلة بإصدار النشرة الجوّية».

 

افرام شدّد على عدم إمكانية التنبّؤ بأحوال الطقس لفترة تتخطّى ثلاثة أيام. حتى أن مطبوخ الأرمن وبواحير الطقسين الشرقي والغربي – ولنا عودة لذلك – لم تعد تصدق كما سابقاً في ظل تعاظم التغيّر المناخي. «الأخير ليس نظرية إنما واقع يعيشه الكوكب ولبنان. ما نشهده الآن وسنشهده لاحقاً من التساقط الغزير والقصير الأمد للأمطار، تشكّل السيول، هطول حبّات البرد، اشتداد العواصف الرعدية، التقلّبات السريعة بدرجات الحرارة وهبوب الرياح القوية يدخل بكليّته في إطار التغيّرات تلك»، ينهي افرام. فإلى مقدّمي نشرات الطقس.

 

المعرفة أوّلاً… الطلّة ثانياً

 

في حديث لـ»نداء الوطن»، يلفت جو القارح، مقدّم النشرة الجوّية على شاشة LBCI والمتخصّص في علم الأرصاد الجوّية، إلى اعتماده على أبحاث ودراسات خاصة أثناء إعداد النشرات الجوّية. كيف ذلك؟ «أستحصل من شركات عالمية على خرائط جوّية تتعلّق بالحرارة والرطوبة والهواء وغيرها من العوامل، ثم أقوم بتحليلها مراراً وتكراراً خلال النهار قبل إعداد النشرة»، كما يجيب. أما عن الدقة في المضمون، فذكّر بضرورة أن يتمتع معدّ النشرة بالخبرة والاختصاص كما بالاطلاع الكافي، وأن يستقي المعلومات من أكثر من مصدر ما يساهم في الحدّ من نسبة الوقوع في الخطأ. وهذا ما يفسّر، على حدّ قوله، التباين الحاصل بين نشرات جوّية كثيرة والحقيقة على أرض الواقع.

 

نحاول الحصول على تفسير لحالة الهلع التي تتسبّب بها بعض التوقّعات- عمداً أو سهواً- فنسمع أن لا قانون ينظّم المهنة، في حين أن الرقابة والانضباط غائبان تماماً. ويضيف القارح: «نحن في موسم العواصف فلا أرى مبرّراً للتهويل الذي يرافق كل منخفض جوّي. الأجدر هو التطرّق إلى التفسيرات العلمية التي تفيد المتلقّي في معرفة الأسباب التي تقف وراء موجة البرد (أو الحر، في أيام الصيف) المتوقّعة بدلاً من إثارة الذعر، وهذا ما تفتقر إليه معظم النشرات».

 

من ناحية أخرى، أضاء القارح، في معرض شرح أسباب غياب الإرشادات في النشرات، على ضيق وقت النشرة الذي يتراوح بين دقيقة ودقيقتين. واعتبر أن مهمة مقدّم النشرة تكمن في إعلام المواطن عن حالة الطقس في حين أن على الأخير أخذ الاحتياطات اللازمة في ما خص التنقّلات أو حماية المحاصيل الزراعية أو حتى مراعاة السلامة العامة. وإذ أكّد أن الاتكال على العنصر الجمالي ليس كافياً بذاته، دعا إلى ترجمة الموهبة والخبرة والشغف في النشرات الجوّية قبل عرضها على المشاهدين.

 

للبواحير ومطبوخ الأرمن قصّتها مع التوقّعات. وهي تصيب أحياناً وتخيب أحياناً أخرى. نسمع في اتصال مع المتقدّم في الكهنة لدى طائفة الروم الأرثوذكس، الأب جراسيموس عطايا، أن بواحير الطقس الشرقي يبدأ احتسابها في 27 أيلول من كل سنة، حيث يدلّ يوم 27 أيلول على حالة طقس أيلول، ويوم 28 منه على حاله في تشرين الأول، وهكذا دواليك. أما بواحير التوقيت الغربي، فتبدأ هي الأخرى في 14 أيلول. لكن هل البواحير مبنيّة على عِلم ما؟ «إنه تقليد بُني على الملاحظة والمراقبة واعتُمد في بلدان كثيرة. وقد تسلّحت به الكنيسة لمساعدة وتوجيه المزارعين في مواسم الزرع والحصاد»، كما يقول الأب عطايا.

 

نسأل مصدراً مطّلعاً في مطرانية الأرمن الارثوذكس في أنطلياس عن مطبوخ الأرمن، فيأتي الرد بأنه يُحضَّر في أرمينيا ويُوزَّع سنوياً لتتمّ ترجمته إلى كافة لغات العالم. ورغم أن لا معلومات كافية عن كيفية تحضيره، فقد أجمع من تواصلنا معهم على تراجع صحة التوقّعات (أكانت من البواحير أو المطبوخ) بحدود 30 إلى 40% نظراً للتغيّرات المناخية الحاصلة. ويذهب البعض إلى توصيفها حالياً بالتقاليد الكنسية لا أكثر.

 

على مدار الساعة

 

نعود إلى العِلم ونتّجه إلى رئيس مصلحة الأرصاد الجوية في مطار بيروت، مارك وهيبه. ففي دردشة مع «نداء الوطن»، يخبرنا أن الرحلة تبدأ من محطات موزّعة على مختلف الأراضي اللبنانية مهمّتها قياس عناصر الطقس المتعدّدة من حرارة ورطوبة ورياح وغيرها. «نقوم بحفظ المعلومات المستقاة ونرسلها إلى قاعدة بيانات عالمية. وتجدر الإشارة إلى أن قاعدة البيانات العالمية هذه تضمّ المعلومات الصادرة عن مختلف الدول المنضوية تحت راية المنظمة العالمية للأرصاد الجويّة (WMO). ومنها مثلاً معلومات من محطات أرضية، عوّامات بحرية، سبر أجواء عليا وأقمار اصطناعية. فهناك مراكز تمتلك نماذج عددية مكلّفة بأخذ المقاسات الصادرة من مختلف الدول وبمختلف أشكالها، وتُخضعها لمعادلات حسابية لمعرفة كيفية تطوّر مختلف العناصر الجوية: تغيّر الضغط الجوي، سرعة الرياح واتّجاهها، الحرارة، الأمطار، تَشكّل الغيوم، وسواها… وتتناول حواسيب وخوادم عملاقة هذه المعادلات الحسابية، فتصدر بعدها جداول بالأرقام نقوم بدورنا بتحويلها إلى خرائط لأغراض التحليل». ثم بعد تحليل هذه المعطيات وتضمينها الخبرة المحليّة المكتسبة عبر سنوات العمل، يتمّ إنتاج وإصدار نشرات الطقس اليومية.

 

ماذا عن عدد النشرات التي تصدرها المصلحة؟ في الأحوال العادية تصدر نشرتان يومياً: الأولى صباحية والثانية مسائية. والحال أن العمل لا يقتصر على تحضير النشرات الجوّية، حيث ثمة خدمة أخرى تقدّمها المصلحة لحركة الملاحة الجوّية ترتكز على إرسال برقية موجزة بمعلومات الطقس الخاصة بمحيط المطار. وتتجدّد هذه البرقية على عدد الساعات، كما يتمّ تعميمها على المطارات الدولية كون مطار بيروت عضواً في منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO). أما في حال حصول تقلّبات سريعة فتُرسَل برقية استثنائية بذلك ضماناً لسلامة الطيران المدني.

 

مع العلم أنه إلى جانب دائرة المراقبة الرصدية ودائرة التقديرات الجوية، تضم مصلحة الأرصاد الجوّية دائرة المناخات التي تقوم بتسجيل وحفظ كافة المعلومات المناخية، والتي على أساسها تقوم بدراسات كالمناخية، والمائية والزراعية.

 

الدقة بالطول والعرض

 

إذا كانت الدراسات علمية بامتياز، فلِمَ لا تصحّ النشرات الجوية دوماً؟ عن هذا السؤال يجيب وهيبه: «لدراسة الغلاف الجوي المحيط بكامل الكرة الأرضية يتعيّن دراسة كل الذرات والمركّبات المكوّنة لهذا الغلاف. وبما أنه يتعذّر دراسة كل مليمتر أو سنتيمتر منه بسبب عدم توافر حواسيب وخوادم على هذا القدر من السرعة والقوة، جرى تقسيمه لمكعّبات بقياس 50 كلم طول، 50 كلم عرض وبضعة مئات من الأمتار سماكة. لم يكن لدينا معلومات دقيقة جداً جغرافياً، في حين أننا نحتاج في حياتنا اليومية لمعلومات بدقّة الأمتار أو عشرات الأمتار. فكانت النماذج تعمل على سلّم مقاسات أكبر بكثير من ذلك الذي نرغب بالحصول عليه في يومياتنا». وهذا أحد أسباب عدم دقة النتائج. لكن مع تطوّر مجالات المعلوماتية، جرى التوصّل تباعاً إلى نماذج أكثر دقة تصل إلى 10 كلم، واليوم باتت نماذج بدقة كلم واحد متاحة. وتستمر الجهود للوصول إلى نماذج أكثر دقة، تلبية لحق المواطن بالتزوّد بالنشرات الأصحّ.

 

سبب مؤثّر آخر لا يقل شأناً هو عامل الوقت. فدراسة تغيّرات الغلاف الجوي تتمّ بقفزات زمنية من خمس عشرة دقيقة. إذ يستحيل دراسة التغيّرات التي تطرأ على الغلاف ثانية بثانية. فهذا يتطلّب مجهوداً كبيراً من جهة ومعدّات فائقة التطوّر من جهة ثانية. «أحياناً نتوقّع تساقط الأمطار في فترة الظهيرة، لكنها قد تتساقط فعلياً عند الثالثة أو الرابعة، والسبب يعود لما ذكرناه». وعليه، كلّما ابتعد تاريخ التوقّع ارتفعت نسبة الخطأ. لذلك، وحفاظاً على درجة مقبولة من الصحّة، لا يمكن تضمين نشرات الطقس توقّعات تتخطى الأيام الأربعة.

 

الأرصاد… رسالة

 

النشرة الصادرة عن مصلحة الأرصاد الجوية في المطار متاحة للعموم ولكافة وسائل الإعلام. «تعمّم المصلحة نشراتها على كافة المؤسسات الإعلامية. وإن كان أغلب هذه المؤسسات يلتزم بنشرات المصلحة، غير أن بعضها يميل إلى تنظيم نشرته الخاصة بالاستناد إلى مراجع أخرى. ذلك أن لبنان يفتقر إلى قوانين تُلزم المؤسسات الإعلامية بنشرات المصلحة. علماً بأنها الإدارة الرسمية الوحيدة المكلّفة قانوناً بهذه المهام، والمسؤولة قانوناً عما يتعلق بالطقس من مواضيع. أما غياب الضوابط والشروط عمّا يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، فيستدعي الرقابة لعدم تحوّل المادة الرسمية إلى مادة عشوائية»، من وجهة نظر وهيبه.

 

لبنان من البلدان المشتركة بالمنظمة العالمية للأرصاد الجوية من خلال مصلحة الأرصاد الجوية، وبالتالي فهو يلتزم الموثوقية والمعايير التي تفرضها المنظمة. ومن أولى مهام الإدارات الرصدية العالمية الرسمية: «حماية الأرواح والممتلكات والأرزاق». فرسالة أمين عام المنظمة لهذا العام شدّدت على العمل كي لا يبقى إنسان على وجه الأرض، خلال السنوات الخمس المقبلة، مجرّداً من إمكانية الحصول، حيث تدعو الضرورة، على إنذار مبكر»، كما يختم وهيبه.

 

ممتاز. لكن ألَيس «الزايد خيّ الناقص»، كما نقول بالعامية؟ ليس الخلل في غياب الإنذارات الجوّية المبكرة بل تزايد غير الدقيق منها. فأحسنوا، على أبواب الشتاء، انتقاء مصادركم.