طوت الانتخابات البلدية والاختيارية آخر صفحاتها في شمال لبنان أمس، على نسب اقتراع متفاوتة، خاصة في المدن، دون القرى، حيث الاستنفار الحزبي والعائلي، أشدّ، والنكاية تلعب دوراً أكبر، وأحياناً التحاسد، وسواها من عناصر الجذب الى صناديق الاقتراع…
البرامج الانمائية التي يتحدث عنها المرشحون قبل الانتخابات وينسونها بعدها، هي كالبرامج السياسية للمرشحين للانتخابات النيابية، كلام في الهواء يتبخر بمجرد صدور النتائج، ويكون الرهان عادةً على الوقت، فلا مَن يتذكّر وعود النائب بعد أربع سنوات ليحاسبه، هذا اذا لم يكن تمديد، أبغض الحلال، كالعادة.
ولا مَن يتذكَّر وعود البلديات بعد ست سنوات. واذا كان مَن أسعفته الذاكرة، فسيجد نفسه أمام عقبتين مانعتين للمحاسبة، أو حتى المعاتبة: مرور الزمن ونعمة النسيان…
هذا بالطبع، اذا كان من برنامج تنموي للمرشح البلدي، أو سياسي للطامح الى جنّة مجلس النواب، لأن مثل هذه الوسيلة الترويجية، افتقدت ضرورتها في لبنان من زمان، فالمرشح النيابي مشروعه السياسي، الولاء لرئيس اللائحة، الذي أنعم عليه بضمّه اليها، والتزامه الوحيد رفع الاصبع، والمرشح البلدي ملتحق برئيس لائحته أيضاً، يتحدث هذا عن مشاريع التنمية، فيردد ذاك قوله من ورائه، وأقلية جداً مَن يدخلون في التفاصيل، لأن التفاصيل تتطلب معرفة وخبرة، وهذه من نوادر الحياة البلدية في بلداننا العامرة.
البعض وصف الانتخابات البلدية ب عرس الديمقراطية لكن مَن يتابع ويراقب الانشقاقات العائلية، والتشققات الحزبية، وعوامل الكره والبغضاء التي اجتاحت المجتمع اللبناني، خلال الأشهر الأخيرة، مصحوبة بمشاعر عدائية في غالب الأحيان، لا يتردد في سحب هذا التوصيف من التداول!..
فممارسة الديمقراطية الانتخابية، تصبح عرساً، عندما يغدو بوسع المواطن اللبناني أن ينتخب مرشحه للبلدية أو الاختيارية أو حتى النيابية، بحرية وعفوية، وبعيداً عن ضغط المال، أو الوعود، أو عبر إغراءات التوظيف للعاطلين عن العمل، على طريقة زواج المتعة، لأجل محدد، ينتهي مع انتهاء حاجة المستأجر لصاحبه…
وعندما يجري اختيار موظفي أقلام الاقتراع من خارج البيئة السياسية أو الطائفية لمنطقة الاقتراع، لا يتحول رئيس القلم الى مندوب عن اللائحة المحظية أو المرشح المرغوب، وقبل أن تصبح هناك كاميرات لمراقبة تلاوة أسماء الفائزين، كانوا يعتبرون رئيس القلم أو مساعده، أكبر ناخب.
ما حصل، هو أقرب الى التمديد للبلديات من خلال الاكتفاء بتغيير الأسماء والمواقع، من دون مقاربة آلية عمل المجالس البلدية، المحكومة للمرجعيات السياسية، المتقاسمة للمقاعد الوزارية، وبالتالي الحاكمة للسلطة التنفيذية بروافدها الحكومية والبلدية.
ورب قائل إن المرجعيات السياسية لا تستطيع التحكم بانتخابات المجالس البلدية، بسبب طابعها العائلي الغالب، وهذا محتمل في معظم الأوقات، لكن من أين للبلديات أن تصرف وتنمّي، ما لم يكن اتحاد البلديات باليد، والكل يعرف أن الاتحاد لعبة سياسية خالصة.
فالديمقراطية الانتخابية التوافقية، لطالما كانت جزءاً من تميز التنوع اللبناني الرائع في المنطقة، لكنها ديمقراطية متكيفة وسريعة التأثر بالأحوال والظروف، بدليل أنها سمحت باجراء انتخابات بلدية واختيارية قبل الانتخابات الرئاسية، التي هي حجر العقد في هيكل الدولة، وبيت القصيد في الملحمة الدستورية.
أما التنوع اللبناني، فيبقى نعمة ونقمة متلازمتين، ريثما يجترح اللبنانيون المقتنعون بلبنان أولاً وأخيراً،. صيغة حديثة للدولة، بعيدة عن الصيغ الطائفية والعائلية، تقوم على تعايش الأديان والمذاهب والطوائف، تنتج دولة عصرية تحافظ على نعمة ذلك التنوع الفريد في هذا الشرق الغارق في مستنقعات العصبية القبلية الكابحة للتقدم.
عندها فقط، يمكن أن نصِف الانتخابات، أي انتخابات لبنانية، ب عرس الديمقراطية.