Site icon IMLebanon

وهبي قاطيشا وآل سعود: ما لي أكتِّم حبّاً قد برى جسدي!

كل ما يرد بين هلالين، في ما يأتي، مقتطع من نص حقيقي كتبه العميد المتقاعد وهبي قاطيشا نشرته مجلة «المسيرة» التابعة للقوات اللبنانية في عددها الأخير. قاطيشا لم يكتفِ برثاء الملك السعودي الراحل ببيان عابر يُنسى بعد قليل، وإنما رواية يُنصح بقراءتها للأطفال قبل النوم!

يطيب للقياديّ الأبرز في القوات اللبنانية وهبي قاطيشا، أداء الكثير من الأدوار. فهو مناضل وخبير عسكري وخبير جيوبوليتيكي ومفكّر. إلا أنه اكتشف أخيراً نفسه حكواتياً من طراز رفيع، وإن كانت حكاياته التي نشرت «مسيرة» معراب أخيراً إحداها تحتاج بعض التنقيح والشروحات. تحمل الرواية عنواناً مشوقاً: «إنها ملحمة آل سعود»، يستهلّها بمعلومات مملّة نسخ تواريخها عن «ويكيبيديا» أو عن موقع مماثل.

يخيّل لمن يقرأ قاطيشا أن الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود كان زميل دفعته في الجيش اللبناني وانشق معه ليلتحق بالقوات: «كان من الشباب والمحاربين المميزين». ويتابع: «لم يكن هدف عبد العزيز الانتصار في المعارك العسكرية والدبلوماسية فقط، إنما تأسيس دولة». يفترض تخيّل قاطيشا يكمل الرواية التالية لمجموعة أطفال في أسرتهم: «مع عبد العزيز بدأ الحلم يتحقق، في سلسلة من الملاحم العسكرية والرؤية الدبلوماسية». كان عبد العزيز صاحب رؤية دبلوماسية إذاً. يفترض، هنا أيضاً، تخيّل الراوي قاطيشا وهو يقلد بيديه جناحي الطائرة ويعدّل نبرة صوته: «عند اختراق الأجواء السعودية (…) تجذبك الواحات الزراعية التي تتعدى الاستهلاك المحلي إلى التصدير». ومستلهماً النموذج السعودي المتطور، يترحم قاطيشا على «تخضير السعوديين لبلدهم بينما نحن مصرون على تصحيره»، قبل أن ينتقل أخيراً إلى ما هو أهم: «في مطار الرياض (…) تنتظر حافلات النقل الجماعي الوفود، فيما تنتظر سيارات الدفع الرباعي وفد القوات». يبدو مؤثراً فعلاً هذا التكريم والاهتمام الاستثنائي بوفد القوات. يكمل قاطيشا الحكاية: «تدخل الديوان الملكي فتصاب بالذهول للاتساع والزخرفة والتجهيزات»، خصوصاً إذا كنت تتخيلهم مجرد بدو يعيشون في خيم، أو حكاماً عادلين استعاضوا عن بناء الدواوين الملكية الفاجرة بتوزيع تكلفتها على المحتاجين من أبناء شعبهم. ظن قاطيشا أنه في إحدى قاعات الأمم المتحدة، قبل أن ينتبه إلى تنظيم رجال الأمن دخول الوفود وخروجها، بدل تكليف شركة خاصة يتألف فريقها من شبان وشابات مدنيين. يكمل: «سمرة بعض هؤلاء العسكريين تميل إلى السواد، فتتذكر عنترة بن شداد الذي قد يكون جَداً لبعضهم»، هكذا (!) من دون زيادة أو نقصان.

«هذه الأرض القاحلة التي جمعها عبد العزيز، لبنة لبنة، اجترحت هذا الموقع الدولي وأصبحت بين الدول العشرين الأولى في العالم».

سمرة بعض

العسكريين السعوديين تذكّر بعنترة بن شداد

من دون أن يحدد لنا وفق أي تصنيف تحلّ السعودية ضمن أول 20 دولة في العالم: في حرية الرأي أو حرية المعتقد أو حرية المرأة أو حقوق الانسان أو حرية الإعلام أو تداول السلطة والشفافية والتوزيع العادل للثروات؟ لا يهم. يزيدنا الراوي: «لا بل قد تتميز عن معظم العشرين بالاستقامة والتسامح». والراوي، قاطيشا، مطلع جيد على التسامح المفرط للمملكة، مع أبنائها خصوصاً، حيث يُكتفى أحياناً بتسعين جلدة لمن حوكم بالجلد بدل 92، ومن يحكم بقطع يده يُكتفى معصمه فقط، وتحيل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المخالفين إلى المحكمة بدل أن تحاكمهم مباشرة.

ثمة إبداع في نص قاطيشا؛ حتى الآن، توحي القصة بأن كاتبها كان يسير في دفن الملك المؤسس، قبل أن ينتقل إلى دفن الملك الأخير عبدالله بن عبد العزيز، شارحاً آلية تداول السلطة «بعد عمر طويل»، وناقلاً كيف «أجمع المطلعون» على أن الملك الراحل كان من أكثر الرؤساء «حضوراً إقليمياً ودولياً». ويستشهد بصحافي فرنسي، لا أحد يعلم كيف وقع عليه، وصف الملك عبدالله بأنه «الملك الأكثر رؤيوية بين مسؤولي المملكة، وحتى بين حكام الشرق الأوسط». وها هو قاطيشا ينطلق: كان الملك الراحل يتمتع بـ»كاريسما (!) وذكاء حاد (!!) وحضور ذهني»، ربما تجلى في أبهى أشكاله عند تحيته الشعب السعودي الشقيق.

«كانت فلسطين الهاجس الأول للملك» الذي لم يأكل أو يشرب أو ينام ريثما يحرر أراضيها. وهو واجه «خطابات الصمود والممانعة والتصدي التي لم تجلب سوى تكديس الويلات للقضية الفلسطينية بطرح الأرض مقابل السلام» الذي حرر الأرض وردع إسرائيل ووفر السلام. و»نعتت المملكة في عهده الإرهابيين بالفئات الضالة» (إنجاز لا قبله ولا بعده إنجاز)، «حتى أنها صنفت أخيراً جمعية (فليحكم) الإخوان المسلمين منظمة إرهابية». أما أهم إنجازات المملكة، فهي عدم «تصدي هذا المارد العملاق أو تعديه أو مطالبته بضم أو هيمنته أو استقطابه… لأي من الدول الصغيرة المجاورة» (باستثناء البحرين طبعاً وقطر). ويتطور النص القاطيشي ليبلغ ذروته: «وقف آل سعود مع حرية الشعوب ضمن حيزهم الجغرافي. إلا أن قيام الثورة الدينية في إيران، دفع المملكة إلى التراجع عن الانفتاح الذي كانت بدأت تتلمسه، والعودة – قليلاً – إلى الدين لئلا يؤخذ عليها تساهلها فوق أرض الرسول». إنها ولاية الفقيه إذاً من تسببت بنمو الوهابية المطرد في السعودية وتصديرها الإرهابيين إلى كل دول العالم.

ويستعير أديبنا الكبير في ختام روايته بعضاً من أدبيات رفاقه في قوى 14، آذار الذين نسخوا من بيانات نعيهم للرئيس السوري حافظ الأسد أفضل العبارات لنعي الملك السعوديّ، قبل أن يذهبوا كيفما كان إلى المملكة للوقوف في صف المعزين، كما حجوا في يوم سابق إلى القرداحة ودمشق.