IMLebanon

أهلاً بكم في بلاد “المشكل”

كنت أتمنى لو كان العنوان “أهلاً بكم في بلاد المنشأ”. أو في “بلاد الأهل”. أو في “بلد الأبجدية”. لكن السيد وزير الخارجية، راعي مؤتمر المغتربين، كان وجّه إلى المقيمين دعوة مسبقة: “فلنذهب إلى المشكل الآن”. ما معناه في لغة الوطن المقيم، لا تضيّعوا وقتنا.

أفقت في قرية كان ثلاثة أرباعها من المهاجرين: البرازيل، المكسيك، الولايات المتحدة، مصر، ومدغشقر، وليبيريا، والأرجنتين، وسائر أطراف الأرض. ولم تكن المسألة كيف وصلوا إلى التامبكو، حيث باع جدي تامر مناديل الحرير على فرَس شهباء، بل كيف وصلوا إلى بيروت وكيف عرفوا الطريق إلى الميناء، وماذا كانت الزوّادة في الطريق، والضوء في العتم، والتصريح لجنود الوالي.

البعض عاد. والبعض عاد لزيارة حْنَين وحِنيّة، ثم غادر إلى الأبد. وأكثرهم ذاب في البلاد الجديدة، باقياً في وطن أولاده، يقرأ من وقت إلى آخر أخبار “أهل البلاد” في الصحف، أو يسمعها من المهاجرين الجدد. وكانت عودة البعض أحياناً مناسبة لمهرجان يحضره الكبار ويفرح به الصغار. فإذا كان العائد ميسوراً، أرسل قبل وصوله سيارة “أولدزموبيل” ضخمة فخمة برّاقة، لها دواليب بيضاء. كما أرسل إلى وكيله تكاليف قوس النصر واليافطات. وأما كلفة “قصائد” الترحيب فكانت تُدفع في الاستقبال وغبّ الإلقاء، موزونة أو مكسورة، مقفّاة أو منقوصة.

كان زمناً طيباً. ليس جميلاً كما سمّيت حقبة العشرينات في فرنسا، لكنه زمن طيب، قليل الوفر وقليل الهموم. والذين غادروا في زمن الأتراك والمجاعات، ها هم يعودون في زمن الاستقلال، والجبين العالي. وبعض الذين هاجروا ومعهم زوّادة تين مغلي، فتحوا الدكاكين والبقالات، وصاروا عند عودتهم من بحيرات ميشيغان ومصانعها يلقّبون بالشيخ سعيد والشيخ فريد. هكذا تسمّيهم الصحف لدى وصولهم إلى “الثغر”، أو مرفأ الولاية، الذي أصبح ميناء العاصمة ومرفأ الأحبة، عائدين أو مغادرين. وهكذا يشير عليهم المختار، وروّاد الساحة، وجلاّس مصطبتها الحجرية، قبيل كل غروب، عندما يفرشون من حولهم الذكريات وطقّات المسابح.

كان “الوكيل” يُقيم للشيوخ العائدين، ثلاثة أقواس نصر. من دون حاجة إلى تسمية المواقع، أوسترلتز أو النورماندي. القوس الأول عند تفرّع طريق صيدا – جزين، والثاني عند المطلّ، والثالث على مدخل الساحة، عند البركة. وكان الشيخ فريد جليل المهابة، عريض المنكبين، ورديّ البشرة، دائم الابتسام، سريع المصافحة، كريم الالتفات نحو المستقبلين، يسأل كل واحد منهم سؤالاً عن أيام الطفولة و”سنة الطوفة” وكيف حمل الطوف حجر المطحنة كأنه شمشوم المطر.

كان الشيخ يريد أن يُشعر الذين لم يهاجروا إلى فلينت ولانسنغ وكفر روبا (Fall River) أنه لم يفقد شيئاً من روابطه الحميمة بمرابع الطفولة، في الغبّيط والخلّة والنعصة والكروم والبلاّنة ودوّار شمس، لكنه كان، في الوقت نفسه، يترجّل من “الأولدزموبيل” مرتدياً “الفراك”، المقلّم الطويل، كما رآه في أفلام دبليو سي فيلدز. لا يصحّ أن يبقى متساوياً إلى نهاية الشوط. فالغربة شرطها النجاح. وللنجاح علامات محدّدة: نشر خبر الوصول إلى الثغر، على الباخرة “مرسيليا”، ثم ثلاثة أقواس نصر، وقصائد الترحيب. و”الأولدزموبيل”. وبنطلون “الفراك”، إذا أرغمه الحر على خلع الجاكيت.

“نرود الأرض” كان يقول سعيد عقل. وشاعر القرية، جريس نوفل، يبدأ “قصيدة” الترحيب بالشيخ فريد بمطلع متوقّع: “أهلاً وسهلاً بفريد لقياكا”. شيء على البحر الطويل، شيء على الوافر، شيء على بحيرات ميشيغان. فالمهم هنا ليس الخليل وأوزانه السقيمة، بل الفريد، الوافر، الوفير.

أهلاً بكم في لبنان، أيها الشجعان النُبلاء. يا مَن تقرأون أخبارنا وتسمعون أحوالنا ومع ذلك تجيئون. يا مَن تشاهدون بطولات “الأجنحة العسكرية” في العائلات، وتأتون. يا مَن تفوزون بثلث الكونغرس البرازيلي من دون “قانون أرثوذكسي”، ومع ذلك تعبرون المحيطات. يا ذوي القلوب الكبرى. أهلاً بفريد لقياكا.

هنا ترون الأشياء في بلّورة سحرية: جمهورية من دون رئيس، وطن من دون مواطنين، دولة من دون قانون، وتوافق مُتقطع إنما بإكراه دائم. انحنى موسيقي فرنسا، كلود ديبوسي على أذُن صديقه قائلاً: “متى يُصاب هذا الحقد بالإنهاك”. كدت، طبعاً، أقول “موسيقار فرنسا” لكنني خفت أن أسرق اللقب من “موسيقاريي” لبنان. يجب أن يُكتب على يافطات الترحيب بالقادمين: أهلاً بكم في مقبرة التواضع ومدافن الغرور. على أنواعه. على أشكاله. على فنونه. على غلاظاته. إلى أي بلد تعودون؟

أجمل ملاحم الشعوب في أسوأ دكاكين البلدان. أناس يعيشون في بلاد الفرص والأمان يدعون، بحجة بيولوجية زائفة عفاها الزمن، إلى بلاد تُحتكر فيها السياسة، تطغى فيها القوة على العدالة، وتُمحى فيها الجماعة من أجل الفرد، وتُرمى الجمهورية بكل قيَمها ثم برمزها الأخير، يدعون إلى ماذا؟ وماذا لو خطَر لبعضهم أن يشكّل وفداً لزيارة رئيس الجمهورية من أجل صورة تذكارية؟ وماذا لو شاء آخرون الذهاب إلى بعلبك، فيما هي تحتفل بانتصار القلمون؟

في “عالم الأمس” يستعيد ستيفان زفايغ، النمسا التي عرفها قبل الحرب: يوم كنت تغادر منزلك وتعود إليه، فتجده في مكانه وتجد مكانك فيه. يوم كان جارك صديقك، وصديقك صديقك. يوم كانت القاعدة هي الصفاء لا هذا التلوّث. يوم الشركة في السكينة لا في الحقد. يوم الوصول بالاستحقاق والأحقية لا بالسلبطة على الناس والحقوق والقانون وبديهيات الذوق والأدب. يوم كان هناك حياء.

سوف يلاحظ المغتربون أن الغرباء نحن. وأما الوطن الحقيقي، أي الكرامة البشرية، فهو من حيث أتوا. ولعلهم قرأوا أننا بعد نيجيريا في لائحة الفساد، لا يسبقنا سوى بوروندي، عند الهوتو والتوتسي، وجارة رواندا.

سألت الدكتور بطرس غالي يوم كان أميناً عاماً للأمم المتحدة، كيف يسمح هذا العالم بقتل 800 ألف بشَري في رواندا؟ قال بحزن، لسنا نملك قوة عسكرية كافية. قلت، قوة منظمتكم ليست في الخوَذ، بل في الشرعية. كل من يخرج عليها يُصبح خارجاً على القانون مطلوباً للعدالة. هكذا حدث لسفاح ليبيريا وسفاحي يوغوسلافيا. وها هم المغتربون مدعوون إلى وطن مجرد من الشرعية الممثلّة قبل أي شيء بالرئاسة. في كتابه “من بيروت إلى القدس” كتب توماس فريدمان أن أميركا تأمّلت لبنان فوجدت بلداً فيه رئيس وحكومة وبرلمان، فقالت حسَناً، فلنتدخّل.

الشكل مهمّ أيضاً، ومهمّ دائماً. ونحن الدولة الوحيدة في العالم التي تدّعي أنها جمهورية وتُعامل الرئاسة والدستور والأصول كأنها لُقطاء. بعضنا يحصي يومياً مدة الفراغ كمن يعدّد لعبة حمص، وبعضنا يطلب مساعدة الدول الكبرى. على ماذا؟ وعلى مَن؟ هل الصين أم فرنسا أم بريطانيا أم أميركا مَن يتآمر أو مَن يأمر في هذا الافتراء الوجودي الجوهري على معنى لبنان ومصيره؟ لقد أعلنّا أنفسنا بلد “مشكَل” مفتوح، وحكومة مهدّدة، ودستور مُحتقَر ومنبوذ. كل فريق يُعلن أنه الحاكم وصاحب القرار. وأما صاحب الحق، أي الناس، فعلى القارعة، غارقين في الضحالة الجافة والازدراء المقزّز لهم ولحياتهم ولأرزاقهم، وخصوصاً لأرضهم.

كنا نتمنّى لو كان لدينا شيء نعرضه على المغتربين. أي شيء. كأن نشرح لهم، مثلاً، لماذا لا نعيّن سفراء في عواصمهم أو نستقبل سفراءهم في عواصمنا. أن نشرح لهم لماذا لا يُسمح لنا بموسم صيف واحد. ولماذا لم يعد لدينا ما نُفاخر به سوى أكبر صحن تبولة وأكبر جاط حمص.

في مسرحية “الكوميديا البشرية” لوليم سارويان، تمسك القابلة بالمولود الجديد وتصفعه قائلة: “هذا هو العالم”. أي ماذا يحملك إلى هنا. هذا هو لبنان.