قدمت تونس، أمس، الطريق الثالثة بين حدي الديكتاتورية، العسكر والمتدينين الدمويين، وهي التداول الديموقراطي للسلطة، بإنجاز ثاني انتخابات تشريعية حرة، منذ الثورة.
صحيح أن تجربة “الأخوان المسلمين” في مصر نبهت “إخوان تونس” إلى أن الديكتاتورية الدينية مرفوضة، لكن الصحيح أيضاً أن تجارب التونسيين زمني بو رقيبة وبن علي، مع العمل التنظيمي، اعطتهم إرادة التصدي لانحراف “حركة النهضة” الإخوانية إلى مصادرة الحكم.
وبعد انتخاب مجلس النواب، الأسبوع الفائت، تكتمل العملية الديمقراطية،نهاية الشهر، بإنتخاب رئيس للبلاد، وتشكيل حكومة تحالف وطني، تضم الأغلبية النيابية الفائزة (نداء تونس)، مع غيرها من الكتل الأصغر.
قبل تونس، اندفعت ديموقراطية الشعب المصري الى التحالف مع العسكر لإسقاط “دولة الخلافة” التي أرادها “الأخوان المسلمون”. وفي البلدين تجلى الحنين الى الماضي، برغم عيوبه، الفعلية أو المنحولة: فالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يتكئ على الناصرية، بما تعنيه من عدالة اجتماعية ودور إقليمي، والمرشح التونسي الباجي قائد السبسي يلوح بالعودة الى إيجابيات البورقيبية، وفي الأساس تنظيم الدولة، وحقوق المرأة.
لماذا نجت التجربتان من لجة الدم والعنف، خلافا لـ”ثورات الربيع” الأخرى؟
الواقع أن ليبيا تشاطرهما المكانة الجغرافية، لكنها، بخلافهما تملك ثروة النفط، لم يعش شعبها يوما على تماس مع الديموقراطية، ولو مشوهة، فانتهت ثورتها على القذافي إلى إحياء الضغائن الأهلية، والقبلية والمناطقية، علما بأن دخول الغرب، بالمعنى الواسع، في عملية اسقاط القذافي، كان يأخذ في الحسابات حجم أكلاف إعادة البناء وتأسيس الدولة، والتي ستصب في العجلة الاقتصادية للدول “الداعمة”، فيما استمرار التدمير يعني رفع فرص الكسب الغربي، الاستراتيجي، ومن مال الليبيين، على عكس مصر وتونس، اللتين ستحتاجان، إلى صناديق دعم دولي.
في الجزء الآسيوي من الجغرافيا العربية، تستعر حروب التدمير في سوريا وبعض العراق، واليمن، ليس لما سيجنيه الغرب من اموال إعادة البناء، فحسب، لكن أيضا لصراع على النفوذ الإقليمي مع الطموح الشاهنشاهي للولي الفقيه، ومداراة الاستراتيجية الاسرائيلية، سلبا وايجابا مع هذا الطموح، كذلك حصارا للنفوذ الروسي المشرئب، وتقنينا لعطش الصين النفطي.
حين تقاتل اللبنانيون، قيل أنهم سيتوقفون حين ينهكون، لكن اتفاق الطائف (أيلول 1989)، أوقفهم رغما عنهم، لأن “مؤتمر مدريد للسلام” كان “يطبخ”، ومطلوب للبنان “المريض”، حينها، بعض العافية كي يشارك في المأدبة.
حروب اليوم مديدة، ولا أحد يستعجل العافية للمنطقة.