الضغط الأكبر على المفاوض الأميركي في لوزان كان من الكونغرس الأميركيّ. الضغط الأكبر على المفاوض الإيرانيّ كان من الوليّ الفقيه والحرس الثوريّ.
ما يجتمع عليه كل من المفاوض الأميركي وكونغرس بلاده واضح: ضمان شطب أي «موّال عسكريّ» في المشروع النووي الإيراني برزمة خانقة من العقوبات وروزنامة متشعبة من الديبلوماسية.
ما يجتمع عليه كل من المفاوض الإيرانيّ من جهة، والمرشد وحرسه، أو الحرس ومرشده، من ناحية ثانية، ليس بهذه الدرجة من السلاسة والوضوح، ولا يقلّل من ذلك أن المفاوض الإيراني يخضع لهرمية ثيوقراطية وعسكرية رأسها الوليّ الفقيه، في حين يتمتع المفاوض الأميركيّ ليس فقط بالمزايا الديموقراطية بعامة، وإما بالاستقلالية الأكبر للسلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية في بلد يتبع النظام الرئاسي كذلك القائم في أميركا. مع ذلك، فإن الديبلوماسيّ الايراني اليوم لا يمكن أن يكون ديبلوماسياً نافعاً، على ما كانه بالفعل محمد جواد ظريف، الا بأن يتجاوز كونه مجرّد وكيل لمصالح الولي الفقيه والحرس الثوري المتداخلة.
لسنا أمام نموذج آخر لـ«ديبلوماسية الثورة الدائمة». لا كارل راديك ولا علي أكبر ولايتي. نحن أمام مفاوض كان عليه انجاز مفاوضات ثلاث في وقت واحد: مع قيادته، كي يعرف الى أي درجة تغطيه، والى أين يمكن أن يصل. ومع حلفاء بلاده، كي يعرف أيضاً الى أي درجة هم معنيون بتليين السقف الغربي دون أن يجعلوا ايران تركب رأسها. ومع الغرب، بقيادة واشنطن، مع إدراكه أنّ مسألة النوويّ لها معاييرها العلمية التكنولوجية، التي يصعب تمييعها بالالتباسات النصّية.
وفي النهاية، وقع اتفاق الاطار بعد قليل من انتهاء المدّة المحدّدة لإتمامه، وتوصّلت ايران لأفضل ما يمكنها أن تتوصّل اليه اذا ما أرادت أن تطوي (لسنوات؟ لأجيال؟) فكرة القنبلة الذرّية التي لم تجاهر بها أصلاً لكن تطور مشروعها النووي كان واضح الاتجاه اليها.
فالاتفاق تجاوز مسألة الرفع التدريجي المتباطئ للعقوبات، الى ايقاع أسرع وأشمل، بعد أن تحرّر وكالة الطاقة الذرّية التقرير المؤهّل لذلك. بقي في المقابل منسوب من الإبهام حول كيفية العودة إلى سن العقوبات لاحقاً في حال اعتبرت ايران مماطلة أو متهرّبة من المراقبة الدولية لمنشآتها، وستتحرّك إسرائيل تحديداً بداعي هذه النقطة.
الاتفاق اذاً يرضي ايران اذا كانت دولة لا تحتاج بالفعل الى مشروع نووي عسكري، ولا يرضيها اذا كانت تحتاج إليه. والخطورة هنا ان تتناقض النظرة الواقعية للديبلوماسي الايراني لاحقاً، مع النظرة النفعية للمرشد الحرسي الايراني. الى حد ما، الغرب اتفق الآن مع «إيرانَين» في وقت واحد.
الواقعية والنفعية هما أساساً من علامات التفكير العقلاني. لكنهما، ايرانياً، يحتملان التناقض. فالديبلوماسي قد يكون ميالاً الى الواقعية بمعنى: انه انجز صفقة مربحة لبلاده، تعطيها طاقة نووية سلمية لتشغّل عجلة التنمية وكهربة البلاد والتصنيع وتقدم الطب الخ، وترفع عنها العقوبات الاقتصادية، وتمهّد لاحقاً لتوسيع تبادل التكنولوجيا نفسها، شرقاً وغرباً. في حين ما يهمّ الحرس الثوري ووليّه في المقام الأوّل هو عودة تدفّق المال وعائدات ريوع النفط والغاز الى الثورة، من بوابة رفع العقوبات، الى أن يسمح ذلك لاحقاً بالدخول في موجة جديدة من التشنّج مع الغرب في الموضوع النووي، وفي سواه.
الاتفاق الحالي، على وضوحه التقني، فيه حكماً التباس على مستوى «القصدية». تماماً مثلما كان أول الانفتاح الاميركي على الصين الشعبية مع ريتشارد نيكسون. في النموذج الصيني، سرّع هذا الانفتاح في انتصار الخط المناوئ للشعبوية الثورية الماوية، اي في انتصار الأولويات الانتاجية مع زعامة دينغ سياو بينغ. هنا التقت كل من بيروقراطية الدولة والحزب، المتداخلتين، على إزكاء هذا التصالح بين ما هو منظار واقعي وبين ما هو منظار نفعي، بدلاً من تشظي عنصري الواقعية. لكن في ايران هل يحدث ذلك؟ أصعب. تحويل ارث الامام الخميني الى ارث محض رمزي، على ما هو ارث ماو تسي تونغ في الصين اليوم، ليس بهذه السهولة، لكنه الى حد كبير رهن بارتفاع صوت من داخل الاستبلشمنت الحاكم في ايران، يسأل القيادة العليا وأركان الحرس الثوري، عن الطائل من كلّ هذا الاستثمار في النزاعات العربية، مثلما أنّ شعار «تدمير اسرائيل» اذا كان يعني عملياً، التوازن النووي معها، فهو بحاجة الى «تأويل جديد» اليوم.
لنعد الى النموذج الصيني: الدولة التي كانت تشكّل نموذجاً لانتعاش الحركات المسلحة الماوية في جنوب وجنوب شرق آسيا، بات نفوذها في هذه البلدان يعتمد اليوم على رجال الأعمال والشركات والاستثمارات الهائلة، وعلى الجاليات الصينية حيث وجدت، دون التخلي تماماً عن الحركات المسلّحة الماوية – النيبال والهند مثالاً، وان انحسرت. لو تتمثّل ايران بشيء من هذا، بالتأكيد لكان الوضع أفضل؛ لكن هل يسعها ذلك قبل انطلاقة معركة وراثة الولي الفقيه الحالي، وهل يمكن أن لا يُنظر ايرانياً للاتفاق الحالي، بمنأى عن هذه العين؟