بعد نجاح الولايات المتحدة في تأمين شبه الإجماع الدولي على إدانة الاجتياح الروسي لأوكرانيا وبعد الاستنفار الأوروبي غير المسبوق من أجل عسكرة جيوش دولها، وخروج بعض دولها عن خط الحياد التقليدي الذي اتبعته، تعيد الحرب في أوكرانيا أساليب الحرب الباردة إلى الواجهة.
لم يُفرِغ أي من فريقي الصراع الدائر كلّ ما عنده، على رغم أن كلاً من موسكو وواشنطن كشف عن معظم أهدافه للمرحلة المقبلة. قطبا الحرب، أميركا وروسيا يحتفظ كل منهما في جعبته بأوراق لأن الحسابات تقوم على أن هذه الحرب لن تكون قصيرة، وأنها قد تطول أكثر مما يتوقع حتى قادة الدولتين الكبريين، وحلفاء أميركا.
وفي مقابل الاقتناع بأن الحرب في أوكرانيا ستُدخل العالم في حرب باردة طويلة الأمد، حتى إذا لم تتوسع الحرب العسكرية الدائرة حالياً، وهذا هو المرجح، فإن انعكاساتها على العديد من الدول وعلى بعض الأزمات الإقليمية لن تظهر قريباً. فهي ستطيل بعض هذه الأزمات، مثل سوريا، وقد تؤدي إلى تقصير عمر بعض الأزمات الأخرى.
وإذا كانت العقوبات الغربية ضد روسيا والمساعدات العسكرية لأوكرانيا برزت على مستوى الإعلام العالمي نظراً إلى قسوتها، فإن وهجها حال دون تسليط الضوء على إجراءات التحسب الروسي للالتفاف عليها، من أجل التخفيف من الوجع الذي ستسببه اقتصادياً واجتماعياً للمجتمع الروسي. وهذا من عوامل إطالة تلك الحرب.
في أسباب إطالة الحرب فإن موسكو نفسها، حسب وسائل إعلامها وتسريبات ديبلوماسيتها، تنفي أن تكون خططت لإنهاء اجتياحها لأوكرانيا في سرعة (بضعة أيام)، خلافاً لما ردده بعض المسؤولين الغربيين لتسويغ الحديث عن أن المقاومة الأوكرانية والمشاكل اللوجستية للجيش الروسي أخّرت الحسم. ويبدو أن القيادة الروسية حددت المدى الزمني لإنهاء العملية العسكرية بأسبوعين إلى ثلاثة، انتهى الأسبوع الأول منها أمس.
أما على صعيد الأهداف، فإن فلاديمير بوتين لن يوقف العملية العسكرية من دون التسليم بشرطه الذي يمثل الحد الأدنى بالنسبة إليه، والقاضي بضمان عدم انتساب أوكرانيا إلى حلف «الناتو» لأنه يشكل خطراً على الأمن الروسي، على رغم النفي الغربي لنية قبول طلب كييف الانضمام إليه. الهاجس الروسي إذا صارت أرض أوكرانيا تابعة للناتو، يقوم على حجة يعتبرها العسكريون الروس استراتيجية. فإذا نقل الناتو صورايخ تحمل رؤوساً نووية إلى أوكرانيا فهذا يعني بالحسابات الافتراضية أن أي صاروخ يطلق ضدها يستطيع دخول الأجواء الروسية خلال أربع دقائق، وإسقاطه سيتم فوق أراضي روسيا، ما يعني أن الأخيرة ستتضرر من تفجيره وليس أوكرانيا… وبالتالي لا تراجع عن ضمان بقاء أوكرانيا خارج فلك حلف شمال الأطلسي، لأن الكرملين لا يثق بتصريحات المسؤولين الأوروبيين بأنهم لن يقبلوا بانتساب كييف إلى الحلف لأنها سكين في خاصرة الدب الروسي، مثلما لا يثق الغرب بتطمينات موسكو بأنها لا تنوي استعادة الأمجاد الأمبراطورية عبر التوسع للسيطرة على دول الاتحاد السوفياتي السابق. وما يعتبره بعض قادة الرأي في الغرب وأميركا حلاً للأزمة عبر إعلان حياد أوكرانيا هو المطلب الثاني للكرملين. من الوقائع التي يرددها الديبلوماسيون الروس للدلالة على حاجتهم إلى ضمانات أمنية مقابل ضمانات لكييف تكرس حيادها، أن من أصل المراكز الأمنية الأوكرانية على الحدود مع بلادهم هناك 36 مركزاً أمنياً يتواجد فيها الأميركيون، قبل اندلاع الحرب، فيها أجهزة تنصت وتحكم وقيادة تساعد في الإشراف على الجيش الأوكراني، وأن الأميركيين أجروا منذ العام 2014، (بعد الإطاحة بالرئيس لوكاشينكو الموالي لموسكو) 11 مناورة مع الجيش الأوكراني، 4 منها في بحر «أزوف» المتصل بالبحر الأسود الذي منه منفذ الأسطول البحري الروسي إلى البحر الأبيض المتوسط الذي توسع فيه الجيش الروسي وأقام قواعد على الشاطئ السوري، في السنوات الأخيرة، من ضمن توجه استراتيجي لتثبيت نفوذ بلاده في المياه الدافئة، ومزاحمة النفوذ الأميركي، في هذه المنطقة الغنية بالغاز والنفط… وفي انتظار معرفة مصير لائحة المطالب الروسية النهائية والتي تعتبر كييف المعلن منها حتى الآن استسلاماً، مثل تجريد الجيش، والألوية المقاتلة في إقليمي دونتسك ولوهانسك والتي تتهمها موسكو باضطهاد السكان من أصل روسي فيهما، بالتواطؤ مع القيادة الأوكرانية الحالية.
من مبررات الاعتقاد بأن المواجهة الغربية الروسية ستطول، أن القيادة الروسية احتاطت للعقوبات الاقتصادية والمالية، فاصدرت قراراً بالكابيتال كونترول، لسحب الأموال، بعد أن أغرقت السوق بالأموال النقدية للحد من مخاوف المواطنين، وسمحت للمودعين بشراء الذهب مع الإعفاء من دفع الضريبة على القيمة المضافة، وسمحت بإيداع الأموال في المصارف بفائدة عالية تصل إلى 20 في المئة، وبالاقتراض بفائدة أقصاها 7 في المئة. وفرضت على الشركات الغربية التي تنسحب من السوق الروسي أن تبيع نسبة من أسهمها، شرط إبقاء الأموال التي تجنيها فيها… ودول الغرب استثنت مصرفين روسيين كبيرين من إخراج المصارف من نظام سويفت، لاضطرارها إلى تحويل ثمن الغاز والنفط الحيويين لها… طالما لم يتم ضمان مصادر أخرى…
إنها إجراءات السباق في عض الأصابع بانتظار التقدم على الأرض.