بعدما تكررت مراسلات باراك اوباما – علي خامنئي، هل يمكن أحداً في واشنطن أن يقدم إجابة عن هذا السؤال: لماذا السرية؟ بالطبع لكل «صفقة» أسرارها، ولكل لعبة حيلتها، ولكل إخراج خدعُه. وفي حال اميركا – ايران لا بد من أسرار وحيَل وخدَع كثيرة لتمرير طبق الاتفاق النووي فوق رؤوس الـ 5 + 1 وتحت يد اسرائيل، وخصوصاً من خلف ظهر العرب بل رغماً عنهم. بديهي أن المراسلات تتعلّق بالصفقة السياسية الموازية وهي تستوجب السرّية لأنها تتم على حساب أطراف آخرين قد يكون اوباما قدّم اليهم تعهّدات مناقضة لالتزاماته تجاه الايرانيين. صحيح أن بإمكان اوباما الإيحاء للجميع بأنه معهم، لكنه قياساً الى ما أظهره طوال ولايتيه بات يرفع شعار «ايران أولاً».
أما الاتفاق النووي فلا مجال للسرّية فيه لأنه سيأتي في نص قانوني – تقني يُحال على الوكالة الدولية للطاقة الذرّية للاشراف على تنفيذه ومراقبة أي مخالفات، فلا مجال اذاً للغموض طالما أن لكل تفصيل تقني ترجمته في تحديد قدرات البرنامج النووي، مدى سلميته، وإمكان عسكرته: فإمّا أن يصدق اوباما وسائر قادة الدول المفاوِضة بأنهم نجحوا في منع ايران من الحصول على سلاح نووي، وإمّا أن يصدق خامنئي وروحاني اذ يقولان أن المفاوضات لن تؤثر في البرنامج النووي، وإمّا أن يصدق بنيامين نتانياهو حين يحذّر من أن الاتفاق بحاله الراهنة سيمكّن ايران من انتاج القنبلة في موعد قريب.
هذه ليست المرّة الأولى التي يلجأ فيها الاسرائيلي الى التلفيق فالتهويل فالتصعيد، للتذكير بأنه «العضو السابع» في المفاوضات ولديه وسيلتان للابتزاز واستخدام «الفيتو» سواء بالتهديد بعمل عسكري أو بتفعيل الكونغرس الاميركي. ولا هي المرة الأولى التي تردّد فيها ايران أن العقوبات لم تكن السبب الرئيسي لدخولها المفاوضات وانما تأمين الاعتراف بنفوذها الاقليمي، ومع ذلك فإن رفع العقوبات كلها دفعة واحدة يبقى الشرط الايراني الأبرز لإنجاز الاتفاق والتوقيع عليه. كما أنها ليست المرة الأولى التي يبدي فيها اوباما استعداداً الى حد «القتال» مع الكونغرس من أجل الحصول على اتفاق مع ايران، اذ إنه راهن كثيراً عليه وأخضع له مجمل سياسته الشرق أوسطية، ولذلك فهو يحارب احتمالات الفشل سواء جاءت من خامنئي أو من نتانياهو.
يوحي الجدل الذي ثار فجأة بشأن المفاوضات، والاصطفاف الجاري مع التمديد أو ضدّه، أن «الاتفاق» شبه جاهز. وقد عارض اوباما التمديد معتبراً أن «ما يكفي من التقارب قد حصل» وأن على الايرانيين أن يقرروا اذا كانت لديهم الارادة والرغبة للتوصل الى اتفاق. كذلك عارضته ايران، مدعومة من روسيا والصين، وهي نصحت اوباما بـ «حل مشاكله الداخلية» كي يتمكّن من اتخاذ «قرار نهائي». ولا تفسير للموقفين سوى أن كل طرف لا يزال ينتظر تنازلاً أخيراً من الآخر لتسهيل مهمته حيال معارضيه: اوباما في مواجهة الجمهوريين و «اللوبي الاسرائيلي»، وروحاني في الردّ على هجمات المحافظين. وقياساً الى الصعوبات يبدو وضع اوباما أكثر صعوبة، اذ ليس لديه «ولي فقيه» ليحميه.
ليس في التسريبات عن رسالة خامنئي سوى أنها تعرض مساعدة ايرانية للولايات المتحدة في «الحرب على داعش» في مقابل الاتفاق النووي. غير أن هذه «المساعدة» المزعومة لم تنتظر الاتفاق، بل سبقته وتجاوزته، اذ لا تفوّت واشنطن مناسبة للاشادة بإنجازات أصبح معروفاً أن مَن يحققها هو «الحرس الثوري» والميليشيات التي أنشأها ودرّبها. لم يعد الدور الايراني في العراق وسورية متخفياً أو متستّراً بل ظاهراً وعلنياً، ويعزى الفضل في ذلك الى عاملين أولهما تنظيم «داعش» متعدد الاستخدامات والخدمات لايران، والثاني سهولة ابتزاز الادارة الاميركية اللاهثة سعياً الى اتفاق نووي… لكن عدم ثقة ايران بالتقارب «الكافي» الذي أشار اليه اوباما دفعها أخيراً الى لعب اوراقها في مقامرة قصوى: في اليمن ذهب حوثيّوها الى خيارات هوجاء من شأنها أن تفكك الدولة وتفاقم أجواء الحرب الأهلية، في العراق تكررت الجرائم التي ترتكبها ميليشياتها عمداً ضد عشائر السنّة مع ما في ذلك من اساءة للعملية السياسية، وفي سورية زجّت بـ «حزب الله» في حملة لاستعادة الجنوب من أيدي فصائل المعارضة مجازفة باحتمالات الاحتكاك بإسرائيل، وفي لبنان استخدمت سلاح «حزب الله» لمصادرة الانتخابات الرئاسية وإبقاء الجمهورية بلا رئيس مع ما يعنيه ذلك من خطر على صيغة الحكم ومستقبل الدولة.
كل هذه «انجازات» ايرانية تحفر الانقسامات عميقاً داخل كلٍّ من البلدان الأربعة وتدفع بشعوبها الى حافة الهاوية. وكلّها «انجازات» تتغاضى الولايات المتحدة عن مخاطرها، كما لو أنها ثمرة تواطؤ بين طرفين توصلا لتوّهما الى «تحالف استراتيجي» وليس فقط الى مجرد اتفاق نووي. بل إنها تحدث باستغلال بالغ الخبث لعالم عربي غارق في تحوّلاته الداخلية. وفي غضون ذلك تحاول اميركا اقناع حكومات المنطقة وشعوبها بأنها عادت، «مضطرّة»، لمحاربة الارهاب. والواقع أن كل يوم يمرّ على هذه الحرب يأكل من صدقيتها، واذا كانت شريحة عرب «نظرية المؤامرة» آخذة بالاتساع اذ يعتقدون بأن «داعش» صنيعة اميركية – غربية، فإن الشريحة الواقعية باتت ترى أن للحرب الراهنة مبرراً هو حماية النفوذ الايراني وتمكينه للاعتماد عليه لاحقاً تأكيداً لادعاء حسن روحاني وايرانيين آخرين بأن دور ايران «ضروري لمكافحة الارهاب وتأمين الاستقرار والسلام» في الشرق الاوسط. وطبعاً ليس أدلّ الى هذا الدور من الاستقرار والسلام المبتعدين عن العراق وسورية ولبنان واليمن وأي بلد آخر قد يتبع.
في غضون ذلك اكتشف الغرب أخيراً، في ضوء تجربته الاوكرانية، أن روسيا ابتكرت نمطاً جديداً من الحروب، مع أن هذا النمط كان ولا يزال أمام الجميع، لو كان هناك من يرغب في رؤيته. انها «حرب هجينة» تلك التي تخوضها روسيا في اوكرانيا، هذا ما توصّل اليه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (لندن) في تقريره السنوي عن توازن القوى حول العالم. ويعني بـ «الهجينة» دمج أنواع من العمليات العسكرية في «حرب محدودة ذات أهداف محدودة» بالاضافة الى حملات اعلامية مكثّفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتبنّى سياسة «إنكار» تزعزع قدرة الرد لدى الطرف الآخر. وإذ يعتبر التقرير أن هذا النوع من الحروب يهدد بـ «نسف استقرار» الدول الغربية «سريعاً» على غرار ما حصل في اوكرانيا، فإنه يقيم مقارنة لتقنيات الدعاية الروسية ليجد تشابهاً بينها وبين الإداء «الداعشي» في تجنيد المقاتلين واستقطاب المتعاطفين. أما الخلاصة التي توصل اليها فهي أن هذا النمط قد يشجع دولاً مثل الصين وايران على استيحائه.
الخلاصة الأهم أن الغرب لم يرَ شيئاً مما فعلته ايران طوال العقدين الماضيين في محيطها العربي، اذ انشغل بوسوسته الدائمة على «أمن اسرائيل» والأخطار المحتملة عليه من البرنامج النووي الايراني، فلم يتعرّف الى «الحرب الهجينة» إلا عندما اقتربت منه ووقعت عند أحد أطرافه. كان التوصيف الذي أعطي قبل نحو عام لبدايات التدخل/ التخريب الروسي في اوكرانيا بأنه يتم بعقلية القرن التاسع عشر والحرب الباردة، أما ايران فتخوض حربها الهجينة مدفوعة بأهداف وأطماع ومفاهيم وعقلية تعود الى الامبراطورية الفارسية، أي الى ما قبل الاسلام. وقد يكون استنهاض العصبية ببدائيتها الغريزية (الانتماء القومي/ الروسي، أو المذهبي/ الشيعي…) من أهم أدوات «الحرب الهجينة» للعودة بالدول والأقوام الى ما قبل التمدّن. هنا يمكن أن تشكّل الحوثية في اليمن حالاً نموذجية لهذا النمط من الحروب.