من تابع الإعلام الغربي، وخصوصاً الأميركي، منذ معارك جرود عرسال الأخيرة، يخال أن الغرب اكتشف للتو حزب الله، أو على الأقلّ اكتشف صحافيّوه جانباً من الحزب كانوا قد تعمّدوا عدم الاعتراف به وإخفاءه لسنوات
يبرع الاعلام الغربي، ولا سيما الأميركي، في تأطير الأحزاب والشعوب والدول والثقافات وتصنيفها حسب ما تفرضه وجهة السياسة الأميركية. يقولب كلّ شيء بطريقة مختزلة في أغلب الأحيان، يعمّمها ويكررها فتصبح حقيقة ثابتة للمتلقّين. حزب الله مثلاً، منذ تحرير عام ٢٠٠٠، هو «الميليشيا الشيعية المسلّحة المتطرفة المدعومة من إيران» التي نسب اليها الاعلام الأميركي أدواراً واتهامات خرجت عن حدود المعايير المهنية أحياناً، خصوصاً خلال تغطيته الأحداث الداخلية اللبنانية منذ عام ٢٠٠٥.
بقي حزب الله «ميليشيا» في عيون الغرب «يهدّد وجود الدولة اللبنانية واللبنانيين» عند كلّ استحقاق وعقب أيّ تحرّك حتى لو كان على شكل تظاهرة شعبية سلمية في إحدى ساحات بيروت.
خلال عدوان تموز ٢٠٠٦، وبعد انتصار المقاومة الشعبية والمسلّحة، بات حزب الله «الميليشيا التي تملك صواريخ متطورة» والتي «جرّت اللبنانيين الى حرب دامية مكلفة مع إسرائيل أدّت الى تدمير لبنان». اعترف بعض الاعلام الأميركي حينها بقوة حزب الله العسكرية بهدف الإشارة فقط الى حجم «التهديد والخطر الذي يشكّله الحزب على إسرائيل». هذا الإعلام الأميركي لم يرد أصلاً أن يبذل أي جهد لشرح هوية حزب الله اللبنانية وعلاقته المتجذّرة بمكوّنات أساسية في المجتمع اللبناني ووجوده في مؤسسات الدولة، وأولاها مجلس النواب.
ثم جاءت الحرب السورية، فضاق إطار التصنيف أكثر. وُضع حزب الله في «الكاتالوغ» المذهبي الذي بُنيت على أساسه معظم التغطيات والتحليلات الأميركية: «حزب الله الشيعي يدعم النظام السوري العلوي بمواجهة معارضة سنّية». حتى بعد ظهور المجموعات المتطرفة و«القاعدة»، لم يشأ معظم الإعلام الغربي الاعتراف لحزب الله بأي دور في محاربة «الإرهابيين»، إذ كيف لحزب «إرهابيّ» أن يحارب «الإرهاب»؟ والحلّ، بالنسبة إليهم، كان في الاستمرار بالإنكار وفي لعبة التصنيفات السطحية.
الى أن جاءت معارك جرود عرسال قبل أسبوعين. لا يمكن الادّعاء أن الاعلام الأميركي أُغرم بحزب الله فجأة، أو أن الصحافيين تخلّوا عن الأحكام المسبقة والتصنيف المسيّس، لكن يمكن الجزم بأنه للمرّة الأولى منذ التحرير عام ٢٠٠٠ يعترف جزء كبير من الإعلام الأميركي لحزب الله بـ«دور دفاعي عن لبنان»، ويقرّ له بـ«محاربة الإرهاب» في لبنان كما في سوريا. الجولة التي نظّمها حزب الله لعدد كبير من الصحافيين الغربيين الى الجرود بعد انتهاء المعارك، كان لها تأثيرها بلا شك، لكنها بقيت «جولة دعائية لأحد أطراف المعركة بعد فوزه»، كما وصفها معظم المشاركين من الصحافيين. ما علق في أذهان المراسلين واحتلّ بعض عناوينهم كان كلام المسؤول الاعلامي لحزب الله محمد عفيف الذي ضمّن الجولة مواقف سياسية وجّهها مباشرة الى الرئيس الأميركي، قائلاً إن «حزب الله هو من يحارب الإرهاب بينما تستمرّ واشنطن في دعمه بمختلف الأشكال»، كردّ على تصريح ترامب الفضيحة قبل أيام من الجولة، حين وضع الأخير حزب الله في نفس الخندق مع داعش والنصرة والقاعدة بالنسبة إلى الدولة اللبنانية ومحاربة الارهاب. حتى منذ ما قبل جولة الجرود الإعلامية، تضمّنت معظم المقالات الأميركية حول معركة عرسال مقاطع تعرّف بالحزب وبنشأته وحاضره، والجديد فيها كان إضافة عبارات مثل «حارب حزب الله الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من لبنان»، وهو «حزب سياسي لبناني»، و«مكوّن أساسي من الحياة السياسية اللبنانية منذ سنوات»، و«لديه قاعدة شعبية تتخطّى البيئة الشيعية المكوّنة»، وأنه «لم يحاول فرض آرائه الدينية على المجتمع اللبناني المتعدد الطوائف»… إضافة الى التذكير بأن الحكومة الحالية «تشكّلت بالتوافق معه»، وأن «الدولة اللبنانية لا تحاربه». سيرة ذاتية جديدة منقّحة لحزب الله لم يشهدها الإعلام الغربي ــ الأميركي منذ نشأة الحزب.
حدود العلاقة وطبيعتها بين حزب الله والحكومة اللبنانية والجيش بدت في معظم الأحيان معقّدة بالنسبة إلى الصحافيين، لكن معظمهم أشاروا الى إيجابية هذا التعاون، خصوصاً في المعركة الأخيرة في جرود عرسال. «إن لم يكن حزب الله يقاتل بالتعاون مع الجيش اللبناني، فهو يقاتل بالتنسيق معه»، استنتج مقال نشر في «غلوبل بوست» و«ذي يو إس إي توداي »، شارحاً وجهة نظر منتقدي الحزب المعارضين لدوره في لبنان وفي سوريا، ومضيفاً: «بصرف النظرعن نيّات حزب الله، فإن قوته المتزايدة داخل لبنان وخارجه سيسمع صداها لبعض الوقت». وسأل: «كيف يمكن لإدارة ترامب أن تفرض عقوبات جديدة على حزب الله من دون أن يسهم ذلك في تبطيء المعركة ضد داعش ورفاقها؟».
وبينما كانت بعض القوى السياسية اللبنانية في الداخل تعترض على تعاون الجيش اللبناني وحزب الله وتهوّل من تبعاته، لفت بعض الصحافيين الأميركيين الى أن «حزب الله والجيش اللبناني عملا لمنع دخول مقاتلين متطرفين الى البلاد» عبر الحدود السورية، كما جاء في «نيوزويك » مثلاً، فيما وصف مقال «ذي سانتشوري فاونديشن » تلك العلاقة بـ«تحالف غريب، لكن فعّال»، لافتاً الى أن حزب الله خاض معارك عرسال الحساسة والصعبة كلاعب وسط ناضج بين جيشين من شبه المستحيل وضعهما معاً في معركة واحدة، أي الجيش اللبناني والسوري»، علماً بأن معظم المقالات نبّهت إلى حجم المساعدات التي يتلقّاها الجيش اللبناني من واشنطن.
ولعلّ أحد أبرز العناوين الصحافية حول الموضوع، عنوان تقرير وكالة «أسوشييتد برس»، أول من أمس، الذي قال: «على الرغم من ادّعاء ترامب أن عملية حزب الله تعزّز دور لبنان»، شارحاً أن هناك «توزيعاً واضحاً للأدوار بين الجيش وحزب الله»، أضاف التقرير أن «حزب الله نجح الى حدّ كبير في تصوير مشاركته في الحرب السورية على أنها تهدف لحماية لبنان من مجموعات «القاعدة» و«داعش» التي اجتاحت الحدود السورية اللبنانية عام ٢٠١٤».
وعن تعاظم نفوذ حزب الله وتحوّله الى قوة إقليمية أساسية أشار مقال «ذي سينتشوري فاونديشن» إلى أن ذلك أحدث «تبدّلاً في الأدوار في الشرق الأوسط»، مشيراً الى أن حزب الله «خرج من فوضى المعارك في سوريا كلاعب وطني إقليمي لا غنى عنه، يتمتّع بقدرات وامتداد ورؤية استراتيجية». تجدر الإشارة الى أن أحد معدَّي المقال، تاناسيس كامبانيس، كان قد كتب عام ٢٠١٢ مقالاً بعنوان «كيف قتل الربيع العربي حزب الله»، ناعياً الحزب ودوره وشعبيته آنذاك.
هل يبشّر الإعلام الأميركي إذاً بـ«حزب الله جديد»؟ «لقد برهن حزب الله، من خلال كل أزمات الحدود المحيطة وتعميق علاقاته بالمؤسسات والحكومات، أنه حتى لو كان كياناً غير حكومي، فهو لاعب ندّي ليس أقلّ مستوى من اللاعبين الحكوميين»، استنتج مقال كامبانيس.