عندما بلغني نبأ فوز دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية تداعت في خاطري أفكار وملاحظات وتوقعات، وشعرت أن الغرب قد يسعى إلى إقامة الأسوار العازلة وأن يفرض السياسات الحمائية بديلاً لإقامة الجسور وانسياب العلاقات مع العالم على الجانب الآخر من الأطلسي، ولم يكن فوز ترامب متوقعاً إلا أن البعض كان يدرك طبيعة الشعب الأميركي وهو الذي دفع برونالد ريغان إلى موقع الرئاسة الأميركية بعدما كان ممثلاً من الصف الثاني لم يحقق النجومية في ميدانه، فمزاج الشعوب يختلف عن أرقام الإحصائيات ونتائج الاستطلاعات ويعكس في النهاية روحاً جديدة قد لا يلحظها المتابعون حتى تأتي نتائج صناديق الانتخاب على غير ما توقع الجميع، ويكفي أن نتذكر أن الاستطلاعات كانت تشير منذ شهور عدة إلى أن استفتاء الشعب البريطاني على بقائه في الاتحاد الأوروبي سوف يكون في مصلحة استمرار العضوية، ثم جاءت النتيجة وكأنها قنبلة مدوية أصابت الكثيرين بالذهول ومنهم الساسة البريطانيون أنفسهم، وليس ذلك أمراً غريباً بل إنه يتسق مع ما أسلفناه من رغبة بعض القوى الغربية الكبرى في إدارة ظهرها لدول العالم التي يسعى أبناؤها إلى الهجرة الشرعية أو غير الشرعية، ونضيف إلى ذلك المخاوف العميقة من المد الديني والتطرف الإسلامي على نحو جسدته جرائم تنظيم «داعش» في العامين الأخيرين.
لذلك فإنني أظن أن الإرهاب الدولي خصوصاً القادم من الشرق الأوسط قد خدم ترامب كما لم يخدمه عامل آخر، ولعلنا نبسط الأفكار والملاحظات والتوقعات المتصلة بالزلزال السياسي الأميركي ووصول دونالد ترامب إلى السلطة من خلال النقاط التالية:
أولاً: إننا نتذكر تاريخياً الميل الأميركي التقليدي نحو العزلة والإحساس بأن الولايات المتحدة الأميركية هي العالم كله، ويكفي أن نتذكر أن 80 في المئة من سكان الولايات المتحدة الأميركية لا يحملون جوازات سفر، فالعالم لديهم هو الولايات التي يعيشون فيها أو ينتقلون بينها، لذلك فإن إقامة الأسوار الحمائية هي جزء من فلسفة الروح الأميركية عموماً، ونتذكر هنا أيضاً مبدأ مونرو رئيس الولايات المتحدة عام 1823 الذي حدد اهتمام السياسة الخارجية الأميركية بالأميركيتين فقط على اعتبار أن المحيط حاجز بين أميركا وبين أوروبا وباقي العالم على الجانب الآخر، ولم تخرج الولايات المتحدة الأميركية من عزلتها إلا مع الحرب العالمية الأولى وإعلان ويلسون لمبادئه الشهيرة التي قامت على أساسها «عصبة الأمم» في جنيف، لذلك فإن العقل الأميركي مستعد لتقبل عمليات المنع والإقصاء لغير الأميركيين، خصوصاً أن التلويح بالإرهاب جعل الأمر متاحاً أمامهم ومبرراً لديهم.
ثانياً: إن نتيجة الانتخابات الأميركية تعكس تجذر المشاعر العدائية تجاه المسلمين ومن بينهم العرب بالضرورة مع رسوخ توجه ظالم يصم المسلمين بالإرهاب ودعمه، ولقد كانت الأحداث التي شهدها العالم في العامين الماضيين سواءً في فرنسا أو في دول أوروبية أخرى بمثابة تأكيد لدى العقل الغربي أن الجاليات المسلمة والعناصر القادمة من دولها هي خطر على استقرار الدول وسلامتها، وهنا يجب أن نضع في الاعتبار أن تصريحات الزعماء في حملاتهم الانتخابية لا تمثل قيداً ملزماً عليهم بعد وصولهم إلى السلطة حيث يواجهون الواقع وتعطيهم مظاهر الحكم قدرة على اتخاذ القرار الأكثر معقولية من تلك التصريحات المطلقة التي كانوا يتشدقون بها أثناء حملاتهم الانتخابية.
ثالثاً: إن النتيجة التي نقرأها بوضوح من فوز ترامب أنها استفتاء على تراجع شعبية الحزب الديموقراطي والتطلع إلى قدرة الجمهوريين على تطويع السياسة الخارجية لخدمة أهدافهم الداخلية عند اللزوم، وتعد هذه النتيجة بمثابة انتقاد حاد لفترة رئاسة أوباما بما فيها من ضعف وتردد وغياب في كثير من الظروف الصعبة والمناسبات المهمة، ويبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تريد أن تدير ظهرها للعالمين العربي والإسلامي من دون إعلان واضح عن ذلك، مع ملاحظة أن أوباما ألقى بثقله الكامل في دعم حزبه الديموقراطي ومرشحة الرئاسة هيلاري كلينتون فجاءت النتيجة وكأنها حكم عليه هو الآخر لأن المواطن الأميركي لا يتحمل فترة رئاسة ثالثة لأوباما من خلال فوز هيلاري كلينتون وتحول سنوات حكمها إلى امتداد لفترة رئاسة الديموقراطيين الحالية.
رابعاً: إننا نتصور أن هذه النتيجة قد قضت تماماً على أي احتمالات لمستقبل سياسي كانت منتظرة لهيلاري كلينتون، كما أن فيها وصماً حاداً لبعض تصرفات حملاتها الانتخابية والمساهمات المادية سواء من الخارج أو من الداخل، كما أنها تأكيد لمؤشرات غير مفهومة، إذ إن 52 في المئة من الأميركيات البيض لم ينتخبن هيلاري كلينتون كما أن 30 في المئة من ذوي الأصول الإسبانية في فلوريدا صوتوا لترامب وهو الذي كان يتحدث عن طردهم وإعادة رسم خرائط الحدود من جديد، ولقد كانت تلك واحدة من الضربات القوية التي تلقتها هيلاري في الأسابيع الأخيرة من جماعات داخلية وخارجية بل ودول أجنبية كانت تراهن على السيدة كلينتون ولكن لم يتحقق لها ما تريد.
خامساً: لقد تناغمت النتيجة مع الاتجاه الأميركي الواضح نحو الحد من الاهتمام بالشرق الأوسط وسياساته ومشكلاته، بل إننا نزعم أنها متوافقة أيضاً مع ذوي الاتجاهات اليمينية بين الزعامات الأوروبية المعاصرة التي رحبت كثيراً بوصول ترامب إلى السلطة واعتبرت ذلك دعماً سياسياً لها ورغبة في اتخاذ طريق مختلف للولايات المتحدة الأميركية في ظل ظروف معقدة للغاية وصعبة بكل المقاييس.
سادساً: إن الولايات المتحدة دولة مؤسسات ولا يمكن أن تكون حالياً قوة متفردة إلا بتغيير جذري في السياسات والأشخاص معاً، ولا شك أن المكون الثقافي لا يبدو أقل أهمية من ذلك للمحافظة على الانصهار السكاني لأبناء الولايات الأميركية المختلفة فتلك أصبحت مفردات العصر وصياغته الواضحة.
سابعاً: إن الموقف المحتمل للإدارة الأميركية الجديدة تجاه إيران وتركيا سوف يختلف عما كان عليه ولكنه لن يتغير تجاه إسرائيل التي أكد ترامب قبل فوزه التزامه بأمنها وتأكيد حرصه على نقل العاصمة إلى القدس في خروج على التزام الإدارات الأميركية المتعاقبة في هذا الشأن مع تأكيد على حالة التخبط السياسي التي يشعر بها الكثيرون بصورة تعزز مخاوفهم وتوحي بالشكوك مما هو قادم.
ثامناً: إن العلاقات الأوروبية – الأميركية سوف تتأثر بالضرورة خصوصاً أن مستشاري ترامب في حملته الانتخابية لم يضعوا تصوراً واضحاً لسياسته الخارجية ولذلك طلبت بعض الدول وفي مقدمها فرنسا إيضاحاً للإجابة عن كثير من التساؤلات المرتبطة بشخصية الرئيس الجديد وتوجهاته تجاه المشكلات الكبرى في عالم اليوم وإن كان البعض يرى أنه سوف يولي العلاقات الاقتصادية أهمية قد تفوق الاعتبارات السياسية لأنه كرجل أعمال سابق يؤمن بالأرقام ولغة الكسب والخسارة.
تاسعاً: لقد اتسمت ردود فعل القوى الآسيوية الكبرى بكثير من التخوف المشوب بالحذر، وقد ظهرت مخاوف اليابان وكوريا الجنوبية مع إحساس صيني بأن العهد الأميركي الجديد هو عهد التنافس الاقتصادي قبل أي شيء آخر لأن ترامب أعلن أنه جاء ليعيد الهيبة الأميركية دولياً ويقتص لبلاده من هؤلاء الذين قامت هي بحمايتهم ولم يكن العائد مرضياً في النهاية حتى أصبحنا أمام نماذج لا يستحق أصحابها شيئاً مذكوراً من وجهة نظر السياسة الأميركية المتوقعة.
عاشراً: لقد شهدنا يوم نجاح ترامب هرولة دولية نحو الولايات المتحدة وكأن الجميع يدرك أننا حققنا إنجازاً حتى أولئك الذين كانوا يقفون منه موقف الرفض، لذلك كان المشهد الأميركي رائعاً في تبادل الرئيس المنتخب رسائل المودة مع أقرانه على الجانب الآخر من الحكم.
لقد أصبح يتعين علينا عندما نفكر في أكبر منصب تنفيذي في العالم وهو منصب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية أن ندرك أن المجتمع الأميركي الذي قدم لنا منذ عدة عقود رونالد ريغان هو ذاته الذي يقدم لنا حالياً دونالد ترامب، كما يجب أن ندرك أن موجة يمينية تجتاح العالم وهي لا تخلو من توجهات ذاتية وروح عنصرية ورفض للآخر، لذلك أصبح المشهد مختلفاً عن عقود مضت، وقد تصبح سياسة الانكفاء على الذات هي البديل لأفكار العولمة والانفتاح والقرية الكونية الواحدة على رغم كل مظاهر التقدم العلمي والتفوق التكنولوجي والثورة الكاسحة في وسائل الاتصال وتقنية المعلومات وتداولها. إننا أمام عالم مختلف وعصر جديد وحقبة قد تكون حافلة بالمتغيرات الكبرى والتطورات الكاسحة والأحداث غير المتوقعة. إنها حقبة الأسوار العالية وليست حقبة الجسور الممتدة!