تكرر دول الغرب، وخصوصاً أوروبا التي تدّعي لنفسها دور المدافع الأول عن الحريات وحقوق الإنسان في العالم كله، الخطأ الذي ارتكبته في السابق مع حافظ الأسد، ولاحقاً مع وريثه بشار، فتكتفي بإدانات خجولة أو بغض النظر تماماً عما يرتكبه «السلطان» التركي رجب طيب أردوغان من كتم لأصوات معارضيه ومصادرة لوسائل التعبير، رغبة في كسب ودّه ومساعدته في وقف تدفق اللاجئين السوريين إلى أراضيها.
ومن جانبه، يوغل أردوغان في ارتكاباته الداخلية، فيصادر الصحف ويسجن الصحافيين ويقمع المحتجين على سياساته بكل الوسائل، مستخدماً «التهديد السوري» الذي يوجهه نحو الأوروبيين لإسكاتهم، ومستفيداً من هشاشة الوضع السوري عند حدوده التي لا يرى من خلالها سوى عدو واحد هو الأكراد، الذين يخشى اقترابهم كثيراً من حلم لملمة أجزاء دويلتهم.
وكان الأسد الأب مارس على الأوروبيين والأميركيين إبان حكمه، أنواعاً مختلفة من الابتزاز شملت خطف الرهائن وتفجير المقار الديبلوماسية، تارة عبر أجهزته الأمنية مباشرة، وطوراً عبر تابعين فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين أو من «اليساريين الأمميين»، فيما يطبق سياسة الاستفراد بشعبه وسحق قواه السياسية ومكوناته الاجتماعية أولاً، قبل أن يفتك بالحلقتين العربيتين الأضعف: منظمة التحرير الفلسطينية ولبنان.
وكان الغربيون في المقابل يديرون رؤوسهم نحو الجهة الأخرى، إما اتقاء لشره أو لتفاهم غير معلن معه على إبقاء جبهة الجولان هادئة وعدم إقلاق أمن إسرائيل، ثم يوسّطونه صاغرين للإفراج عن رهائنهم الذين خُطفوا بأوامر منه، أو يتوسطون لديه للتخفيف عن أطراف أو مدن أو مخيمات تتعرض لحصار جيشه وقصفه، مثلما حصل في لبنان مراراً.
واليوم، باستثناء بعض تصريحات الاحتجاج التي تندرج في إطار إراحة الضمير ورفع العتب، لا يواجه أردوغان في خضم حملته الشرسة على المعارضة التركية والأكراد أي مواقف عملية لإجباره على التزام معايير يدعي الانتماء إليها، ويكتفي الأوروبيون والأميركيون بالتفرج على تدرجه في جعل القمع أسلوب دولة بكامل أجهزتها الأمنية والتشريعية والقضائية والاجتماعية، في وجه أي معارضة لـ «الباب العالي» الجديد، إلى أن يصل بها يوماً إلى مصاف بطش عائلة الأسد في سورية.
وبعدما حولت جنوب شرقي البلاد إلى منطقة حرب ذهب ضحيتها خلال أشهر مئات القتلى من الأكراد بذريعة محاربة الإرهاب، طاولت حملته لإسكات منتقديه حتى الشركات، بعدما أدت إلى تسريح الآلاف من رجال الشرطة والجيش والاستخبارات، في تدابير تذكّر بحملات التطهير التي كانت تشنها الأنظمة الشيوعية السوفياتية والصينية ويذهب ضحيتها الملايين.
وفي موازاة عسفه الداخلي، يمارس أردوغان البهلوانية السياسية مع الخارج، فينتقل فجأة من عداوة إلى تحالف، ومن تهديد إلى ترغيب، على غرار التحول المفاجئ الحالي في علاقته مع إيران التي كانت تراجعت بسبب الموقف من الحرب السورية، لتعود فتجد «قواسم مشتركة كثيرة» محورها العداء لفكرة الاستقلال الكردي، وبعدما سمعت طهران «كلاماً تركياً جديداً» عن مستقبل سورية.
الغرب الذي يخضع لابتزاز أنقرة في قضية المهاجرين السوريين ويقدم لها الأموال لإقناعها بقبول وقف تدفقهم إلى أوروبا من دون التأكد من أن هذه المبالغ ستذهب فعلاً إلى مستحقيها، قد «يستفيق» يوماً بعد استنفاد مصلحته مع نظام أردوغان وزوال مبرراتها، لكن الوقت سيكون متأخراً على إصلاح الأضرار الفادحة التي يلحقها بتركيا وديموقراطيتها.