لم تتوقّع إدارة ترامب الجديدة ردة الفعل القويّة (نسبيّاً) في العالم على الإجراءات الجديدة ضد نحو ٢٠٠ مليون مسلم (ليسوا أكثر من ١٣٪ «فقط»، حسب مقالة لموقع «برايتبارت»، البالغ التأثير في الإدارة الجديدة)، كما أن عبدالله بن زايد أفتى بأن القرار لا يستهدف المسلمين (ربما عنى أنه يستهدف البوذيّين في تلك البلاد السبعة).
القرار كان عاديّاً وهو في سياق وعد أطلقه ترامب في حملته الانتخابيّة. لكن الاحتجاجات (وصفتها بعض الصحف العربيّة، خطأً، أنها «عارمة») في المطارات الأميركيّة (والتي جذبت إليها الكثير من العرب والمسلمين واليساريّين) لا تعكس كل الصورة. إن فكرة حظر كل المسلمين من زيارة أميركا (وليس بعضهم من الدول السبعة فقط) تحظى ــ حسب استطلاع قبل أشهر ــ بتأييد نصف الأميركيّين (٥٠٪ يؤيّدون الفكرة، ويتوزّع التأييد كالآتي: ٧١٪ من الجمهوريّين و٣٤٪ من الديموقراطيّين و٤٩٪ من المستقلّين). وفي الحملة الانتخابيّة، لم تكن الاعتراضات الديموقراطيّة (الخجولة عموماً) على فكرة الحظر أخلاقيّة أو حتى دستوريّة: كانت في غالبها نفعيّة. اعترض البعض على حظر يمكن أن يشمل طغاة مسلمين متحالفين مع أميركا وإسرائيل حول العالم. واعترض البعض الآخر على قرار يمكن أن يزيد من القدرات التجنيديّة للمنظمات الإرهابيّة. فيما اعترض بعضٌ آخر على عدم جواز سنّ حظر على أساس الدين، لأن ذلك يتعارض مع التعديل الأوّل للدستور الذي يمنع الحكومة من إبداء ميول دينيّة.
أصرّ ترامب أن قراره لم يكن موجّهاً ضد المسلمين (لكن السفارة الأميركيّة في دولة العدوّ أوضحت في بيان رسمي أن اليهود المولودين في أي من الدول المعنيّة بالقرار غير مشمولين بالقرار، كما أن مستشار ترامب، رودي جولياني، أفصح في حديث على شبكة «فوكس» أن القرار كان حيلة من أجل تمرير إعلان ترامب أثناء الحملة الانتخابيّة عن عزمه على منع كل المسلمين). كما أن القرار نال ــ حسب استطلاع قبل يوميْن من رويترز ـ إبسوس ــ تأييد ٤٩٪ من الأميركيّين (بقوّة أو بعض الشيء) فيما عارضه ٤١٪ من الأميركيّين (بقوّة أو بعض الشيء) وأجاب ١٠٪ بـ«لا أدري». لكن القرار لم يأتِ من عدم: فهو يُفهم فقط في سياق حملة غربيّة عالميّة (وتاريخيّة) ضد الإسلام والمسلمين.
هناك نظرتان إلى معالم التزمّت والضيق والقمع في دول الغرب: الليبراليّة (شرقاً وغرباً) تنسبها، في نظريّات بائسة، إلى «شعبويّة» شخص واحد، وإنه تلاعب بعقل الجمهور الجاهل وأثار غرائزه، ونجح بأساليب ملتوية في الفوز. حتى أن هناك من يشير إلى تقدّم هيلاري كلينتون في عدد الأصوات كأن الانتخابات في أميركا منذ تأسيسها تقوم على عدد الأصوات وليس على مجموع الأصوات الاقتراعيّة في كل ولاية (وقد سبق لأربعة رؤساء أن فازوا من دون الحصول على أكثريّة «الصوت الشعبي العام»). ولوم الجمهور («الغوغاء» في بلادنا أو «البائسين» حسب وصف هيلاري كلينتون) عادة ليبرالية ثابتة. ومن السهل هذه الأيّام التركيز على شخص ترامب والترحّم على أوباما الذي كان ــ حسب تعليقات بعض العرب في الصحف ووسائل التواصل ــ يريد أن يحرر فلسطين وينهض بالفقراء لو أكمل ولاية خامسة أو سادسة. النظريّة الثانية ترى استمراريّة وثباتاً في مسار الإمبراطوريّة مع تغييرات طفيفة في الديكور وفي نسبة تحصيل الضرائب وتصاعدها. والتركيز على شخص ترامب وحده من دون النظر إلى الانقسام الحقيقي في البلاد يطمس معالم في الثقافة السياسيّة. وتركيز الإعلام العالمي على الاحتجاجات في المطارات عظّم من حجمها، ولم يرد الاعتراف بأن معظم المحتجّين كانوا من العرب والمسلمين المهاجرين (ومن أطراف أقصى اليسار والأكاديميا). لكن يريدون في لبنان أن يصدّقوا أن أهل هوليوود هم المعبّرون الحقيقيّون عن أهواء الشعب الأميركي.
وما يجري لا يتطرّق إليه الإعلام العربي الذي يعبّر عن ذعر الأنظمة العربيّة. وطغاة آل سعود يحكمون باسم الإسلام لكن يتسامحون مع إهانة الإسلام والمسلمين إذا أتت على يد دول الغرب أو العدو الإسرائيلي. تحاول حكومات الغرب، كل بطريقتها، إعادة تصويب وتعديل الإسلام. وقدسيّة النص القرآني يُشكّل صدمة للصهاينة ولحكومات الغرب في محاولتها إيجاد إسلام جديد ــ وبنصوص مقدّسة جديدة، لو أمكن. الحكومة النمساويّة سنّت في عام ٢٠١٥ قراراً خاصاً بإعادة انتاج تعريف وتصميم الإسلام، وبناء عليه يُفرض على رجال الدين المسلمين التكلّم بالألمانيّة وعليهم أيضاً إثبات «الأهليّة المهنيّة» ــ إما من خلال برنامج حكومي في جامعة فيينّا أو عبر إتمام برنامج مماثل. كما أن القانون يفرض على منظمّات المسلمين إبداء «موقف إيجابي من الدولة والمجتمع» تحت طائلة الحظر (حار المفسّرون في تفسير «الموقف الإيجابي» ــ لكن الطاعة مطلوبة). والقانون يلغي الشريعة في مجال التعارض.
والقوانين ضد الإسلام والمسلمين، بأشكال مختلفة ومتنوّعة تنتشر في دول الغرب. ونحو عشرين ولاية أميركيّة سنّت قوانين خاصّة بمنع الشريعة الاسلاميّة، فيما تدرس ولايات أخرى قوانين مشابهة لأن هناك خطر انتشار الشريعة بات مقلقاً لقطاع واسع من الشعب الأميركي وشعوب بعض الدول الغربيّة (التي تسنّ قوانين ضد الشريعة). وإذا كان «البيان الشيوعي» قد أشار في عام ١٨٤٨ إلى هاجس خطر الشيوعيّة، فإن الغرب اليوم مهجوس بالخطر الإسلامي. والدول الغربيّة تتعامل مع هذا الخطر بطرق متعدّدة: من سن قوانين خاصّة بالبرقع والنقاب إلى منع أو تقييد ملابس البحر للمسلمات إلى إعادة تعريف الإسلام للمسلمين من قبل غير المسلمين: ورئيس مجلس النواب الأميركي السابق، اقترح أن يُسأل كل مسلم يدخل هنا إذا ما كان يوافق على الشريعة، وأن يُطرد لو أجاب بالإيجاب. أي أن الغرب الذي يزهو أمام المسلمين بعلمانيّته، يسنّ قوانين خاصّة بالمسلمين. أي أن العلمانيّة الغربيّة مستعدّة أن تخالف علمانيّتها من أجل أن تقيّد وتحظر الإسلام والمسلمين. والشعب السويسري (في استفتاء شعبي) وافق بنسبة ٥٧,٥٪ في ٢٢ من الـ٢٦ كانتون على قانون خاص بتحريم المآذن، في بلد لم يكن يوجد فيه إلا أربع مآذن فقط، وحُظر النقاب في بلد لم يتجاوز فيه عدد المنقّبات أصابع اليد الواحدة. وباسم النسويّة، يُفرض على المسلمات والمسلمين المصافحة. وبلدات فرنسيّة سارعت إلى حظر الـ«بوركيني»، وسارعت الشرطة إلى فرض الحظر بأسنّة الحراب قبل أن ترفض المحكة العليا هذا الحظر. لكن هناك خلفيّات لحالات العداء ضد الإسلام في دول الغرب. هناك مسلمون في دول أميركا اللاتينيّة وأفريقيا لكن ليس هناك مِن مظاهر لهذا العداء. أي أن تاريخ الغرب الاستعماري مرتبط بصعود أيديولوجيّة الإسلاموفوبيا، والتي تتشارك مع معاداة السامية في عناصرها، وإن لم تحز الأولى على الوصمة التي حازتها الثانية في دول الغرب بعد الحرب العالميّة الثانية.
والحرب القانونيّة والعنفيّة ضد الإسلام والمسلمين تستعين دوماً بأدوات محليّة مسلمة. كان وجود محمد أركون في لجنة «ستاسي» ضروري لإسباغها شرعيّة ما، كما أن تعيين المسلمين في مناصب غير مؤثّرة (أو الدروز في دولة الاحتلال) بات عرفاً سياسياً. وعندما جرت المناظرات بين ترامب وبين هيلاري كلينتون حول الإسلام، كان مكمن اعتراض كلينتون (والليبراليّة الغربيّة برمّتها) على حظر المسلمين بالكامل (والذي كان ترامب قد اقترحه في حملته) أن ذلك يعيق عمليات التجسّس على المسلمين ويعيق مساهمة المسلمين في الحروب على المسلمين.
طغاة آل سعود يتسامحون مع إهانة الإسلام والمسلمين إذا أتت على يد دول الغرب أو إسرائيل
وكانت حجّة هيلاري «أننا» نحتاج إلى تعاون المسلمين في التجسّس والإخبار على مسلمين آخرين. ومؤتمرات المنظمّات العربيّة والاسلاميّة في أميركا كانت في الثمانينيّات تعقد اجتماعات حول أساليب التصدّي القانوني لاستهداف العرب والمسلمين من مكتب التحقيقات الفدرالي، فيما أصبحت المنظمّات نفسها (بعدما استولت سفارات دول الخليج عليها بعد ١١ أيلول) تعقد مؤتمرات كي تلقّن جمهورها وأعضاءها أساليب عوْن مكتب التحقيقات الفدرالي في التجسّس والإخبار على مسلمين. لا بل إن بعض المسلمين في الغرب يزايدون على غير المسلمين في التحريض على المسلمين. فناصر خضر، السوري الأصل والعضو في حزب المحافظين، يرفض رفضاً قاطعاً وجود البرقع في الدانمارك ويقول: «إنه ليس دانماركيّاً». وطالب منذ عام ٢٠٠٩ بمنعه. أما المغربي الأصل، أحمد أبو طالب، العضو في حزب العمل الهولندي، فقد اقترح وقف المعونات الحكوميّة عن كل النساء اللواتي يرتدين البرقع. وفي هذا الأسبوع الذي اختفت فيه أصوات حكّام المسلمين في الرد على قرار المنع الأميركي (وحدها حكومة إيران ردّت على القرار الأميركي بالمعاملة بالمثل فيما عبّر رئيس الوزراء العراقي عن عميق حبّه وودّه لجنود الاحتلال الأميركيّين)، أصرّ كاتب سعودي على موقع «العربيّة» أن ترامب ليس ضد الإسلام وأن قرار الحظر ضد الدول السبعة ليس ضد الإسلام لأنه استثنى السعوديّين (وافقه على ذلك وزير الطاقة السعودي).
وفي هذا الأسبوع المحموم في المطارات الأميركيّة، كان المعترضون الليبراليّون على القرار الأميركي يذكّرون بحسن سلوك المترجمين العراقيّين لقوّات الاحتلال الأميركي، وباقي المخبرين. وقد لحظ القانون الأميركي أن لهؤلاء وضعاً خاصاً يجب أن يؤخذ به. وكلّما تعرّض الأميركيّون المسلمون لمهانة، تنطّح الليبراليّون وحتى اليساريّين للتذكير بدول المسلمين في القوّات المسلّحة الأميركيّة وفي الحروب الجارية في البلاد العربيّة والإسلاميّة. المسلم مقبول، لكن دونياً، في حال خدمة المشروع الذي يستهدف بني جلدته وبني دينه. لكن لهذا الواقع الحاضر خلفيّتة التاريخيّة أيضاً.
عبّر شارل ديغول في عام ١٩٥٩ عن المخاوف نفسها التي تعتري هذه الأيّام جسم المجتمعات الغربيّة كافّة. قال حينها: «نحن، قبل كل شيء، شعب أوروبي ينتمي إلى العرق الأبيض، من الثقافة اللاتينيّة والإغريقيّة والدين المسيحي… المسلمون… هل رأيتموهم… بعمائمهم وجلابيّاتهم؟ تستطيعون بسهولة تبيّن أنهم ليسوا فرنسيّين. حاول أن تمزج الزيت مع الخل. هزّ الزجاجة، وبعد دقيقة ينفصلان من جديد. العرب هم العرب، والفرنسيّون هم فرنسيّون. هل تظنّون أن المجتمع الفرنسي يمكن أن يستوعب عشرة مليون مسلم؟ مسلمون، يمكن أن يصبحوا غداً ٢٠ مليوناً وبعد غد ٤٠ مليوناً؟ لو أننا دمجنا، لو أن كل العرب وكل البربر من الجزائر اعتُبروا فرنسيّين، كيف نمنعهم من القدوم إلى الـ«متروبول»، حيث مستوى المعيشة مرتفع أكثر بكثير؟ بلدتي لن تعود كولومبي ـ لي ـ دو ـ إيجليز بل كولومبي ـ لي ـ دو ـ موسك (في إشارة إلى تحوّل الكنائس إلى جوامع). (الفقرة مُدرجة في كتاب جون ولاك سكوت، «سياسة الحجاب»، وهو أفضل كتاب في نقد العلمانيّة الفرنسيّة والعداء ضد الإسلام والمسلمين). وتاريخ الحرب الفرنسيّة ضد الجزائر هو أفضل نموذج للقياس بحالة العداء الغربي المعاصر لأن كل الحجج التي سيقت في تسويغها تُساق اليوم في تسويغ الحروب والحملات الغربيّة ضد الإسلام والمسلمين.
ينسى البعض حجم الوحشيّة الفرنسيّة في استعمار الجزائر. بحلول عام ١٨٧٢، كانت فرنسا قد قتلت أو تسبّبت في قتل ثلاثة ملايين من الجزائريّين (أي أن وصف بلد «المليون شهيد» لا يكفي أبداً ــ راجع كتاب «مسح مستوى المعيشة لسكان القسنطينة الريفيّين» لأندريه نوشي). والحرب الفرنسيّة كانت منذ القرن التاسع عشر تشكّل ما أسماه عالم الاجتماع الأميركي، إدموند بيرك الثالث، بالألمانيّة «كلتوركمف»، أي حرب ثقافيّة «أدّت إلى تدمير المدارس والمكتبات والمدارس الدينيّة والاستيلاء على ممتلكات الأحباس» (راجع فصل «الإرهاب والدين: بريتاني والجزائر» في كتاب لم يصدر بعد له، بعنوان «سوسيولوجيا الإسلام»). والحرب هذه كانت تنم عن عنصريّة غير مخفيّة مستعينة بأدوات مختلفة. لا بل إن روح الثورة الفرنسيّة ساهمت في تبرير وتزخيم الوحشيّة الفرنسيّة تحت عنوان جلب التنوير والثورة إلى الشعب الجزائري.
ولحالة العداء الغربي ضد الإسلام والمسلمين سمات متعدّدة. فهي قد تكون دينيّة (مسيحيّة أو يهوديّة) تعتبر أن الدين الإسلامي معاد لتلفيقة «الحضارة المسيحيّة ـ اليهوديّة». وهذه المعاداة بارزة في الكنائس الإيفانجاليّة هنا. والعداء المسيحي الكنسي ضد الإسلام نقصَ في بعض الكنائس (مثل الكاثوليكيّة، على الأقل جهاراً مع أن البابا بنديكتوس السادس عشر، الذي، في خطبة معروفة له، عبّر عن الحقد الكنسي التاريخي ضد الإسلام وميّز فيه بين دين العقل والمنطق ودين لا عقل ولا منطق فيه (طبعاً، من المسلّي جداً أن يحكم رجال الدين الذين يتصلون بإرادة غيبيّة في أمور العقل والمنطق). وهناك العداء الأيديولوجي اليميني والليبرالي اليساري، ويصعب التمييز بينهم كما قال الأنثروبوجي طلال أسد (عن الحالة الفرنسيّة): «يصعب غالباً التمييز بين عداء الليبراليّين العلمانيّين واليمين المتطرّف ضد الإسلام» («تكوين (الحيّز) العلماني»، ص. ١٦٥). وذكّر أسد بقضيّة الفصل (المؤقّت) للتلميذات المحجّبات الثلاث، وقرار وزير التعليم بإبطال قرار ناظر المدرسة. فقد سارع مثقّفون فرنسيّون بما فيهم ريجيس دبريه، إلى التوقيع على عريضة تقارن بين قرار الوزير وبين التعامل المائع في عام ١٩٣٨ مع الخطر النازي في الثلاثينيات. (لهذا فإن جوزيف مسعد ركّز في نقده للغرب على الحالة الليبراليّة في كتابه ــ سيصدر قريباً بالعربيّة ــ بعنوان «الإسلام في الليبراليّة»).
وتتراوح حجج اليمين واليسار بين ذرائع الأمن القومي والقوميّة إيّاها وذرائع العلمانيّة أو النسويّة (الاستعماريّة، وهي قديمة قدم الاستعمار الفرنسي للجزائر). لكن جاك شيراك، في توصيته في عام ٢٠٠٣ بتشكيل لجنة «ستاسي» (باتت تُسمّى لجنة الحجاب، مع أنها أوصت أيضاً بحظر القلنسوة اليهوديّة وخنجر السيخ، لكن المنعيْن الأخيريْن، كانا، كما أشارت جون ولاك سكوت، استلاحقيّيْن، أو ضرورة لحجب الهدف الحصري من حجب الحجاب)، تحدّث باسم الأمّة (راجع كتاب «سياسة الحجاب»، ص. ١٠٥). وتصبح العلمانيّة متزمّتة حصراً ضد المظاهر الاسلاميّة ــ أو ضد المظاهر التي تُعتبر إسلاميّة. وعندما حاول بعض الكتاب والناشطين التعبير عن رفضهم لقرار منع الحجاب (لكن باسم العلمانيّة بعنوان «نعم لـ«اللاسيتي» ولا لقرارت الاستثناء) في بيان في مجلّة «ليبرالسيون» اليساريّة، قامت المجلّة بتغيير عنوان البيان إلى «نعم للحجاب في المدارس العلمانيّة» (واتهمت مجلّة «برو شوا» النسويّة كل مَن عارض منع الحجاب بـ«الأصوليّة»).
بحلول عام ١٨٧٢، كانت فرنسا قد قتلت أو تسبّبت في قتل ثلاثة ملايين من الجزائريّين
وهذه على وتيرة الحجج اليمينيّة نفسها عن الأمن القومي عندما تصبح معارضة القمع والتمييز تعاطفاً مع الإرهاب (ألهذا صمت كثيرون عن أكثر من ٢٧٠٠ عمليّة دهم في شهر واحد ضد منازل مسلمين في فرنسا على أثر التفجير في باريس في العام الماضي؟) والعلمانيّة الفرنسيّة متساهلة مع الكاثوليك واليهود وصارمة في تزمّتها نحو المسلمين. ومنذ عام ١٩٥٨، «أسهمت الحكومة الفرنسيّة بنسبة ١٠٪ في ميزانيّة المدارس الدينيّة الخاصّة (ومن دون أن تخضعها لامتحانات الأهليّة). ولم تسمح الدولة بإنشاء مدرسة إسلاميّة إلا مؤخراً بعد «مفاوضات مضنية استمرّت ثماني سنوات» (راجع كتاب «سياسة الحجاب»، ص. ١٠٠). وعندم اقترح فرانسوا ميتران في عام ١٩٨٤ دمج المدارس في نطاق نظام تعلمي علماني موحد، هبّت تظاهرات عارمة باسم «حريّة المدرسة»، ولم يتطرّق أحد يومها إلى الخطر الذي يهدّد العلمانية الغالية. والمساومة الكبرى للعلمانيّة الفرنسيّة جرت مع السلطات الدينيّة في مقاطعة «ألزاس ـ موزيل»، حيث لا يزال التعليم الديني (لليهود والكاثوليك واللوثريّين والكالفينيّين) إلزاميّاً. ولم توصِ لجنة ستاسي بإلغاء هذه المدارس أو هذا المنهاج الديني.
لكن اليمين الغربي لا يكترث للعلمانيّة كما يحرسها أرباب اليسار، ولهذا هو يلجأ ــ على طريقة بوش ــ إلى ذرائع إما متعلّقة بنشر «الحريّة» (وباسمها نشرت ووطدّت الإمبرياليّة الأميركيّة ديكتاتوريّات في كل بقعة من العالم في الحرب الباردة وما بعدها) أو باسم الأمن القومي، الذي يفيد في تسويغ قوانين القتل والإرهاب والقمع («المُضاد»، حسب مُشِنّيه). لكن ليس العداء ديني محض إذ إنه ــ كما في خطاب الاستعمار الفرنسي للجزائر ــ يحمل في تضاعيفه عنصريّة صارخة ضد العنصر العربي بصرف النظر عن الدين (وهما ما يجلّهم الانعزاليّون المسيحيّون ــ طبعاً، ليس كل المسيحيّين ــ في لبنان). وجريدة «نيويورك تايمز» نشرت مقالة عن الموارنة في ٢٥ أيّار ١٨٩٠ جاء فيها عنهم أنهم «باعة جوّالون «شرعيّون»»، وأنهم «شحاذون موارنة دنيئون» ووصفتهم بأنهم «إلى حد بعيد، أكثر دونيّة من الصينيّين والإيطاليّين»، وكان ذلك فيما استمرّ سعي اللبنانيّين في أميركا في مطلع القرن العشرين لاعتبار أنفسهم من البيض، وإقناع المحاكم بأنهم أعلى مرتبة من «العرق الأصفر» الذي أُدرجوا فيه من قبل.
وحركة العداء ضد الإسلام والمسلمين في أميركا، مثلاً، تتضمّن تيّارات وعناصر مختلفة: ١) الكنائس الإيفانجاليّة والمعمدانيّة الجنوبيّة. ٢) المنظمّات الصهيونيّة التي لا تفوّت فرصة للنيل من الإسلام والمسلمين (وقد كان دور المنظمّات اليهوديّة الأميركيّة خافتاً هذا الأسبوع مع أن الحظر الأميركي يذكّر بالحظر النازي في بداية حكم هتلر). ٣) قوّات حفظ الأمن والشرطة المحليّة. ٤) إعلام اليمين. ٥) أقطاب الإلحاد الغربي من أمثال ريتشارد دوكنز وسام هرس وكريستفر هشتشنز (قبل وفاته)، الذين يعادون الإسلام بطريقة تختلف كثيراً عن معاداتهم (المُفترَضة) للمسيحيّة ولليهوديّة خصوصاً. ٦) بعض الكنائس الشرقيّة في بلاد المهجر، مع أن تحالف عون مع حزب الله غيّر وجهة الكثير من هذه الكنائس وأبعدها عن تحالفها مع اللوبي الصهيوني الذي كان بشير الجميّل قد أرسى دعائمه. لكن الكنائس الآشوريّة وبعض رعيّتها كانت ناشطة في دعم عداء ترامب ضد الإسلام (مع أن هناك في الجيل الجديد منهم مَن رفض هذا التوجّه). ٧) لبنانيّون متحالفون مع الصهاينة، مثل بريجيت غبريل (اسم مستعار لنور سمعان)، وهي من أنشط الدعائيّين والدعائيّات ضد الإسلام. وتحتاج حركة العداء ضد الإسلام إلى «محليّين» (مسلمين أو مسيحيّين) وذلك من أجل الكشف عن المستور في أسرار الديانات المعادية (نشرت صحيفة «القدس العربي» قبل أيّام مقالة جاء فيها أن العقيد في الجيش السوري، سهيل الحسن، يلقي خطبه بلغة مُرمّزة لا يفهمها إلا الخاصّة من العلويّين). وفي التراتبيّة العنصريّة للاستعمار الفرنسي في الجزائر، جاءت مرتبة العرب أدنى من مرتبة الأمازيغ (وكان لون بشرتهم جزءاً من تفوّقهم على العرب). وطابع الاعتراض الفرنسي على الجزائريّين كان ذا طابع جنسي: فالرجل العربي «فاحش» وهو «شهواني بطريقة غير مقبولة ومفرطة» (راجع كتاب نيل ماكماستر، «المهاجرون المُستعمَرون والعنصريّة: الجزائريّون في فرنسا، ١٩٠٠-١٩٦٢»). والاعتراض على شهوانيّة المهاجر العربي ذي الغرائز الجنسيّة الخطيرة التي تشكّل خطراً على المرأة البيضاء هو عينه الاعتراض الحالي في ألمانيا وفي دول أوروبيّة أخرى. وجرائم الرجل الأبيض الجنسيّة (اليوميّة) لا تحظى بتغطية الإثارة نفسها التي تحظى بها حوادث اعتداء منسوبة (خطأً أحياناً) إلى المهاجر العربي.
لكن هناك جانب سياسي للعداء الغربي للعرب والمسلمين. فالعرب والمسلمون يبدون في حقبة ما بعد الحرب الباردة غير مطواعين بتاتاً، وهم مستمرّون في معارضة توجّهات الإمبرياليّة الأميركيّة والاحتلال الإسرائيلي (بالرغم من ضعف قدراتهم وتواطؤ حكوماتهم مع المعتدين). لكن قارنوا بين ١٩٥٨ وبين الحقبة الحاليّة: في عام ١٩٥٨ هبطت قوّات احتلال أميركيّة في لبنان والأردن، ولم تلقَ مقاومة (وكان ذلك في عصر المد الجماهيري الناصري). أما في العقديْن الماضييْن، فقد هُزمت قوّات الاحتلال الأميركيّة في العراق (وطُردت منه شرّ طردة) وهُزمت في أفغانستان حيث لا يفصل بين طالبان وسيطرتها على معظم البلاد إلا قوات الاحتلال الأميركي فيها. ولا ننسى أن قوّات الاحتلال الأميركي هُزِمت وطُردت شرّ طردة من لبنان ــ هذا البلد الصغير الذي رحّب فيه السابحون والسابحات في عام ١٩٥٨ بالقوّات الأميركيّة وقدّموا لها المشروبات الغازيّة والحلوى. إن خيطاً يربط بين كل حالات الاستعمار الغربي في بلادنا وصعود ترامب (وصعود أوباما أيضاً). لكن العنصريّة الصارخة من قبل الغرب، والإصرار على التعامل مع المسلمين بالقوّة والقمع، لن تؤدّي إلا ــ وفق جدليّة «السيّد والعبد» لهيغل ــ إلى مزيد من التحرّر، ولو طال أمده.