رغم كل الأسباب الموجبة لانفلات الشارع في لبنان تحت وطأة الضغوط الاقتصادية، فإن نسبة الاطمئنان إلى عدم الانهيار تبدو كبيرة. ثمّة رسائل غربية تحذّر القوى السياسية من لعبة تحريك الشارع، خشية تعريض المؤسسات الأمنية لهزّات
تحذر أوساط أمنية غربية من مغبّة السماح بانفلات الشارع اللبناني في هذه المرحلة، وتؤكد أن الحاجة ملحّة إلى لجم أي تحركات واسعة، خشية انفراط عقد القوى الأمنية إذا تُركت الساحة الداخلية في حال فوضى وتظاهرات كما حصل في 17 تشرين الأول 2019. بحسب المصادر نفسها، فإن المتداول حالياً، في دوائر غربية معنية مباشرة بالوضع اللبناني، أن العواصم الأساسية «لا تريد سوريا أخرى» في لبنان، لأن أي انفلات جديد في ظل تراكم الانهيارات قد يؤدي بلبنان إلى منزلق خطر. إذ أن التجربة أثبتت أن تغيير السلطة في دول كهذه ليس أمراً سهلاً، وما حصل في سوريا، رغم العقوبات والحرب الطويلة، كان إعادة انتخاب الرئيس بشار الأسد مجدداً. ولأن الأمر يبدو مماثلاً في لبنان، تراجع الكلام عن عقوبات أظهرت أن نتائجها ضد المستهدفين بها لم تكن على قدر التوقّعات، ولم تترك التأثيرات المأمولة.
الرسالة وصلت إلى من يعنيهم الأمر، سياسيين وحزبيين وأمنيين، ممن كانوا يساهمون في تغذية التحركات الشعبية، بأن أي تحرك حالي لا يصبّ في مصلحة الاستقرار وقد يعرّض المؤسسات الأمنية لهزّات داخلية. وهذا كان أحد الدوافع لتحرك بعض الدول لتقديم مساعدات عينية للقوى الأمنية التي ترزح تحت وطأة الضغوط وتعيش على وقع انهيار محتم نتيجة انحسار التقديمات التي يتلقّاها عناصرها وتدني قيمة رواتبهم.
وتفيد التقارير الغربية بأنه، رغم حدّة الكوارث الاجتماعية، فإن حجم السيطرة الأمنية يبدو عالياً نتيجة استمرار التنسيق بين القوى السياسية والأمنية والمالية. لكنّ التحذيرات تبقى من انفلات عشوائي في لحظة غير محسوبة أمنياً، خصوصاً في ظل ما يعانيه اللبنانيون من أزمات حياتية (كالبنزين والكهرباء) تكون ردود الفعل عليها، عادة، مباشرة وحادّة، ويمكن أن تتوسع إذا لم يتخذ المعنيون ضوابط للجمها.
أي تحرك حالي في الشارع قد يعرّض المؤسسات الأمنية لهزّات داخلية
يؤشر الكلام الأمني الغربي إلى معطيين لافتين: الأول يعيد التأكيد أن الانتفاضة الشعبية التي انطلقت عفوياً وشارك فيها آلاف اللبنانيين، في أكثر من منطقة، جرى استثمارها داخلياً وخارجياً، عبر قوى سياسية أعطتها زخماً من خلال قطع الطرق وتأمين الحشود والمستلزمات الضرورية إعلامياً ولوجستياً. وما يحصل اليوم من ترهّل فاضح في مواجهة الضغوط المعيشية المضاعفة عمّا كانت عليه الحال قبل نحو عامين، يؤكد أن الالتزام الحزبي بعدم توتير الشارع عالي المستوى.
المؤشر الثاني أن من شاركوا حقيقة في الانتفاضة الشعبية، من غير المنتمين إلى الأحزاب وقدموا أموالاً ودعماً يومياً، وشنوا «معاركهم» الخاصة ضد القوى الحزبية التي أرادت حرف التظاهرات عن هدفها الأساسي، هم اليوم منكفئون أو مهاجرون أو استسلموا للضغط الكبير الذي تمارسه القوى الحزبية في السلطة وخارجها. وحتى الحرب اللافتة على المصارف انكفأت تحت وطأة الحملة السياسية والإعلامية والأمنية المضادة للدفاع عنها.
من هنا لا يمكن إلا التوقف عند الحرب الافتراضية التي تدور على مواقع التواصل الاجتماعي ضد السلطة بكل مكوّناتها، منذ أيام، نتيجة أزمات المحروقات والدواء والقطاع الصحي وانقطاع الكهرباء والمياه ووضع المصارف يدها على أموال الناس. كل السباب والشتائم والنكات والتوصيفات التي تُطلق ضد القوى السياسية، لا تشبه بشيء ما جرى في 17 تشرين الثاني. وهو أمر يفترض معاينته بدقّة في لحظة إعادة قراءة ذلك المشهد، مقارنة بما يجري اليوم، رغم كل مظاهر الوجوم على وجوه الواقفين على أبواب المصارف وفي طوابير محطات المحروقات، ومشاهد العسكريين الذين يحملون المساعدات وهم خارجون من مراكزهم. في وقت بدأت تتحول الذكرى السنوية الأولى لانفجار الرابع من آب، بكل المآسي التي خلّفها، مناسبة لاستذكار الضحايا وحزن عائلاتهم. لكنها تبدو في الوقت ذاته مناسبة للسلطة للظهور بمظهر «الناجية» من الانفجار، لأنها تمكّنت من النفاذ من أضخم كارثة إنسانية حلّت ببيروت، بعدما نفذت من استحقاق 17 تشرين، وهي تنفذ اليوم نتيجة تدخلات خارجية عادت لتطرح إمكان إبقاء مظلتها فوق لبنان حماية للاستقرار فيه، لأن أحداً في الوقت الراهن غير مستعدّ للغرق في رماله المتحركة التي تتحول مستنقعاً للبنانيين وحدهم.