حين وصل اختراع المولدات الكهربائية الضخمة إلى لبنان، هرع كثيرون إلى حسابات التوفير في المصارف أو حمل تقاعدهم «متل ما هو» من المصرف إلى تجار المولدات لشراء هذه الماكينة الضخمة، وابتدأ السباق بين أبناء القرى لصيد أكبر عدد ممكن من المشتركين لـ»قبر الفقر». وقد ولّد التنافس عروضات مختلفة تفيد المواطنين. إلا أن النافذين تنبّهوا سريعاً لما يمكن أن تدرّه هذه المولدات، فبدأت تتكون «مافيات المواتير» التي سمحت أخيراً ببروز من يمكن وصفهم بحيتان الكهرباء
الطاولة الأولى في السهرات الحزبية، لغالبية الأحزاب، تحجز باسمهم. إنارة منازل غالبية الضباط وتدفئتها وتشغيل البراد على حسابهم. وعلى حسابهم «اشتراك» أماكن العبادة ورجال الدين وعدد كبير من الإعلاميين. وهم يتحملون الجزء الأكبر من النفقات الانتخابية اللازمة لحفاظ رؤساء المجالس البلدية على كراسيهم.
فهم ورؤساء المجالس البلدية واحد. وهم «كرم ع درب»؛ يمكن أي سياسي نافذ أن يوصيهم بقائمة لا يقبضون ممن ترد أسماؤهم فيها. فمن هواياتهم تقديم «جست» صغير هنا وهناك. أحد هؤلاء يرفع يديه عالياً، متأففاً من ظلم الرأي العام لأصحاب المولدات. يقول إن الاستياء كان مشروعاً في السابق، أما اليوم فقد نظم القطاع: بات هناك لجنة خاصة بأصحاب المولدات. ألزم أصحاب المولدات باعتبار الـ»ديجانتير» من فئة خمسة أمبير، سواء كان أبيض أو أسود، بعدما كان بعض أصحاب المولدات يعتبرون الأبيض ستة أمبير. بات هناك عداد إلكتروني فوق كل مولد يحصي ساعات العمل. ووضعت تسعيرة موحدة لمازوت المولدات تصدر عن وزارة النفط، وتسعيرة نهائية موحدة يصدرها المجلس البلدي ويلتزمها أصحاب المولدات. وإضافة إلى ذلك، يتبرع أصحاب المولدات بإنارة الطرقات الداخلية ودور العبادة على نفقتهم الخاصة، ويعالجون الأعطال الطارئة فور حصولها بدل انتظار موظفي الدولة. وبثقة عارمة بالنفس، يشير «المعلم» إلى تبرعه بخمسة آلاف ليرة لكل مشترك لديه يشكك بصدقيته ليشتري عداداً يعلق بساعة كهرباء البيت ويبين بدقة ساعات كهرباء الدولة وساعات كهرباء الاشتراك. فالمطلوب شكر أصحاب المولدات ومدحهم لا ذمهم. علماً بأن ما سبق صحيح: من بعيد يبدو الوضع مثالياً جداً: نُظِّم قطاع المولدات، والتسعيرة الشهرية باتت مسؤولية البلديات. إلا أن التدقيق أكثر يبين أن عدد الاشتراكات في المتن الشمالي بحسب الأرقام المتداولة بين أصحاب المولدات يُعد بمئات الآلاف (منازل ومؤسسات وشركات ومحال تجارية وصناعية). ما يعني أن الربح الشهريّ لأصحاب المولدات يُحتسب بملايين الدولارات شهرياً، لا بالآلاف أو مئات الآلاف. وما فعله هؤلاء خلال العامين الماضيين كان تقديم بعض الخدمات الصغيرة لتجميل صورتهم بعدما ضمنوا احتكار السوق وتحكمهم بشكل كامل بكل اللعبة، مقفلين باب المزا
المولدات نبع صغير يفسح السياسيون المجال أمام أزلامهم ليشربوا منه
حمة والمنافسة ومانعين أياً كان من دخول هذا «الكار».
التنظيم المفترض للقطاع، واهتمام المجالس البلدية به، ليسا إلا وسيلة أصحاب المولدات لحماية مصلحتهم. مشهد النفايات في الشوارع وضررها أخطر بكثير من انقطاع الكهرباء، لكن مبالاة رؤساء المجالس البلدية بالنفايات وبحثهم عن حلول كان أقل بكثير من مبالاتهم بمولدات الكهرباء. لماذا؟ لأنهم لا يملكون معامل فرز نفايات، فيما هم يملكون مولدات كهرباء. ولأن النفايات لا تضع ملايين الدولارات في جيوبهم أول كل شهر، فيما المولدات الكهربائية تفعل ذلك وأكثر. شقيق رئيس المجلس البلدي، وهو مختار أيضاً، من أبرز أصحاب المولدات في سن الفيل. في الزلقا أيضاً شقيق رئيس المجلس البلدي شريك مع أصحاب مولدات الزلقا. في جل الديب أحد أبرز أعضاء المجلس البلدي واحد من أبرز أصحاب المولدات في المتن، وأحد المخاتير يستقطب مشتركين أكثر فأكثر يوماً تلو آخر. في الدكوانة أكثر من عضو في المجلس البلدي وأكثر من مختار يملكون أكثر من عشرة مولدات. في أنطلياس ــ النقاش عضو المجلس البلدي الأقرب إلى رئيس البلدية شريك رئيسي في أكثر من مولد كهربائي. في ضبية أيضاً، أكثر من عضو يملك أكثر من مولد. نائب رئيس بلدية المنصورية أحد أبرز قادة مولداتها. رئيس مجلس بلدية بصاليم شريك رئيسي في مولداتها. في برج حمود أحد موظفي البلدية ومنسق أحد الأحزاب من أصحاب المولدات. بناءً عليه، إن الصلاحيات المعطاة لرؤساء المجالس البلدية هي عملياً صلاحيات معطاة لأصحاب المولدات. فأصحاب المولدات يقولون إن أسعار «سلعتهم» تحددها المجالس البلدية، لكن التدقيق يؤكد أن المجالس البلدية ليست سوى أصحاب المولدات. وبالتالي يراقب أصحاب المولدات أنفسهم ويحدّدون لأنفسهم الأسعار. و»التنظيم» الذي رعته وحمته قائمقام المتن مرلين حداد (التي يُنظر إليها كرمز للشفافية في القضاء) لم يكن سوى وسيلة ذكية لإيقاف المزاحمة التي تتيح للمواطن الحصول على خدمة أفضل بسعر أقل، وتكريس النفوذ المطلق لرؤساء المجالس البلدية. فالرياس لا يكتفون بالتسعير، الأهم أنهم يحمون مولداتهم أو مولدات المحسوبين عليهم من المزاحمة عبر منع دخول أي مستثمر جديد، ما لم ينسق جميع خطواته معهم. وساعة يشاء، يمكن «الريس» تنكيد حياة من لا يعجبه من أصحاب المولدات: يرسل له المفتش البيئي. يرسل المفتش الطبي. يطالبه بنزع أسلاك الكهرباء وتمديداته عن أعمدة البلدية. يطالبه برفع المولد كله عن الملك العام الخاص بالبلدية. مرة ينتبه إلى أن المولد الكهربائي لا يبتعد المسافة القانونية المطلوبة عن المباني السكنية، ومرة يقرر خفض التسعيرة على نحو خيالي ليضمن خسارة صاحب المولد. علماً بأن أكثر من تسعين في المئة من المولدات في المتن موجودة في مشاع بلدي، بحسب لجنة أصحاب المولدات. وفي الجديدة ــ البوشرية ــ السد، أتمّ أحد أصحاب المولدات الإجراءات اللازمة لوضع مولّده على رصيف عام قبالة مبنى القائمقامية (الذي يضم أيضاً حشود الأجهزة الرسمية، المدنية والأمنية) في طريق محاط بالمباني السكنية والمتاجر من جميع الجهات. كذلك سمح «التنظيم» بتحديد وضع جميع أصحاب المولدات في المتن: من تبيان مرجعياتهم السياسية أو الأمنية إلى عدد مشتركيهم ووضعهم المالي وغيره لتسهيل عمل حيتان المولدات الثلاثة الذين يبتلعون كل من يتعثر، متقاسمين القرى في ما بينهم بالتنسيق دائماً مع شركائهم رؤساء المجالس البلدية.
يضع الحيتان صغار منافسيهم أمام خيارين: إما أن يبيعوهم مولداتهم أو «ينتحروا»
الثلاثة هم: عضو مجلس بلدية جل الديب جوزف الملاح المحسوب بالكامل على النائب ميشال المر. ميشال صعب، شقيق خبير التجميل نادر صعب ومسؤول مخابرات الجيش اللبناني في المتن سابقاً بيار صعب. وفادي أبو شديد المحسوب على النائب ميشال المر أيضاً. وهم يمسكون اليوم بنحو خمسين في المئة من اشتراكات المولدات في المتن، وفق أرقام لجنة أصحاب المولدات. وتقدَّر أرباحهما الشهرية بنحو مليوني دولار. وربح الملاح مضاعف مقارنة بأصحاب المولدات الآخرين. فعائلته لديها محطات وقود، وهو يتقاضى بالتالي الربح الطبيعي الذي يتقاضاه جميع أصحاب المولدات، وربحاً إضافياً من بيع المازوت لنفسه. علماً أن الكثير من أصحاب المولدات عجزوا عن تسديد فواتير المازوت لأصحاب المحطات لأسباب مختلفة، فبات أصحاب المحطات شركاء لهم في مولداتهم. ويروى في هذا السياق عن كثيرين كانوا ينطلقون في عملهم حين قرر الحيتان التهامهم، فتحرك رؤساء المجالس البلدية باتجاههم لإلزامهم باحترام جميع معايير الصحة والسلامة العالميين رغم تكاليفهما الخيالية، ما اضطرهم إلى بيع حصص من مولداتهم. علماً بأن أصحاب المولدات يبيع بعضُهم بعضاً المشتركين! فالمولد الكهربائي الذي يوفّر كهرباء لمئتين وخمسين مشتركاً (خمسة أمبير كل مشترك) ثمنه نحو 75 ألف دولار، فيما تراوح التكلفة التقديرية للتمديدات بين 20 و25 ألف دولار. لكن أحد أصحاب المولدات في الدكوانة يعرض المولد والاشتراكات للبيع اليوم بـ350 ألف دولار لا مئة ألف. لماذا؟ لأن سعر المشترك الواحد ألف دولار. فمن يوصفون بحيتان المولدات مستعدون لأن يدفعوا ألف دولار ثمن كل مشترك لا يتجاوز ربحهم الشهري منه عشرين دولاراً، لثقتهم باستردادهم المبلغ أضعافاً مضاعفة مع الوقت. أما الاتفاق الجيد بين هؤلاء ورؤساء المجالس البلدية، فيسمح لهم باقتحام إحدى البلدات بمولّد جديد دون أية ضوابط، مقدمين اشتراكاً مجانياً لكل من يرغب في الانضمام إليهم، فيما يعجز صاحب المولد عن مجاراته بحكم قدراته المالية المحدودة فيستسلم سريعاً ليتوصل إلى تسوية معهم أو «ينتحر». ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنهم يخفضون السعر حين يدخلون، لكنهم سيضاعفونه مرتين أو أكثر حين ينكسر صاحب المولد الآخر وتخلو الساحة لهم. علماً أن كل ما سبق يبين سيطرة مجموعة صغيرة من النافذين على الدجاجة الكهربائية التي تبيض ذهباً وحمايتها من أية مزاحمة، دون التفات إلى الاتهامات الشعبية المتداولة لأصحاب «الموتيرات» النافذين برشوة موظفين في الإدارات المعنية بتوزيع الكهرباء لزيادة ساعات التقنين آخر كل شهر، حتى لا يشكو المواطنون من غلاء التسعيرة، ومن دون السؤال عما يحول دون استحداث إدارة جديدة في البلديات تعنى بتشغيل المولدات وتوزيع الكهرباء والجباية، ما دامت مهمة سهلة يقوم بها أفراد عاديون، ودون الربط بين الوجهة النهائية لعائدات هذه المولدات والرغبة السياسية في عدم توفير حل كامل لأزمة الكهرباء، ودون المقارنة بين معدل انخفاض سعر المازوت ومعدل انخفاض فاتورة الاشتراك، ودون التوقف عند الفرق في ساعات القطع في جداول كل من وزارة الطاقة وأصحاب المولدات. ما سبق كان مجرد عينة عن نبع صغير يفسح السياسيون المجال أمام أزلامهم، خصوصاً رؤساء المجالس البلدية، ليشربوا منه ويسقوا بعض الأحزاب والجمعيات ورجال الدين وبعض المواطنين الذين يشعرون بالظمأ.
قائمقام المخالفات
قائمقام المتن مارلين حداد انطلقت عند بداية عملية «التنظيم» في حزيران 2011 من وجوب بناء الثقة بين البلديات وأصحاب المولدات من جهة وأصحاب المولدات والمواطنين من جهة أخرى. لكن أصحاب المولدات أسسوا لجنة ونظموا أنفسهم وراكموا ثقة فوق ثقة مع المجالس البلدية، أما المواطنون فلا أسسوا لجاناً ولا نظموا أنفسهم ولا تابعوا اجتماعات ولا استفسروا أقله عما يحصل. وأشارت حداد في انطلاقتهم إلى نيتها الإشراف بنفسها على «إجراء مسح شامل للمولدات وأماكنها وتوافر الشروط الصحية والبيئية لإزالة المخالفات». لكن «المخالفات» تقبع تحت شرفة مكتبها، تمرّ بها عند ذهابها إلى العمل وعودتها منه وتتنشق مازوتها، حالها في ذلك من حال جميع القاطنين في المتن جنباً إلى جنب المولدات.