IMLebanon

ماذا عن «السياسات الإسلامية» للبلدان الأوروبية؟

 

في نهاية القرن الثامن عشر، وبإزاء تقهقر السلطنة العثمانية بدءاً من تتالي هزائمها أمام روسيا، ووصولا الى التغلغل الاستعماري الغربي فيها في أعقاب الحملة الفرنسية على مصر، ظهرت «السياسات الإسلامية» للبلدان الأوروبية الرئيسية، وظهر اختلاف كبير بين هذه السياسات. فروسيا القيصرية، بتوسّعها على حساب العثمانيين و»الخانيات» المرتبطة بهم في القرم وشمال القفقاس، ما عادت تفكّر في ظلّ الامبراطورة كاثرين الثانية، بتنصير المسلمين، بل أخذت تتقبّل الإسلام كمكوّن عضوي في الإمبراطوريّة، وتربط الشريحة العلمائية بجهاز الدولة، وأمراء المسلمين بالأريستوقراطية الروسية، في الوقت نفسه الذي كانت روسيا تندفع وراء طموحات مسيحانية من مثل الظفر بالقسطنطينية والمضائق.

أمّا فرنسا الثوريّة فركبت موالاً آخر. فهي من جهة، وريثة فرنسا النظام القديم، المرتبطة بتحالف يمتد قروناً الى الوراء مع الباب العالي، وقد احتاج ملوك فرنسا في القرن السادس عشر إلى تدخّل الأسطول العثماني أكثر من مرّة ضد ممالك وإمارات عاصية، كما حدث يوم قصف الأسطول العثماني مدينة نيس. ومن جهة ثانية، هذه الفرنسا الثوريّة أخذت تطوّر نظرة جديدة الى الاسلام، أساسها النظر اليه كـ «طاقة»، طاقة إما ان تستثمرها لصالحك أو تنقلب عليك. نابليون بونابرت جسّد تحديداً هذه النظرة الى الاسلام كمكمّل شرقيّ لحركة التنوير في أوروبا، وكدين للعقل لن تلبث أن تحييه العقلانية الحسابية والتوسّعية، الوافدة بقوة السلاح الى ميناء الاسكندرية، فيتولّد لهيب ثوريّ يشمل الشعوب الاسلامية الشرقية تباعاً، بما يفتح له طريق الهند.

بمعنى من المعاني، يمكن اعتبار الجنرال بونابرت رائد عملية التسييس والأدلجة الحديثتين للاسلام، ابتداء من النظر اليه كطاقة، في حين يمكن اعتبار تجربة كاثرين الثانية الدمجية للمسلمين في روسيا بمثابة أوّل تجربة تظهر فيها منظومة مسيحية قدرتها على تقبّل الآخر المسلم في داخلها، علماً أنّ الحضارة (أو الحضارات) الاسلامية وحدها هي التي كانت قادرة على تقبّل المِلل الأخرى داخلها لأكثر من ألف عام. 

واليوم، حين نغادر زحمة «مكافحة الارهاب» الكونية، وكلّ يغنّي فيها على ليلاه، يمكن بعدها أن نتساءل عن «السياسات الاسلامية» التي تظهرها الدول الكبرى في عالم اليوم. 

النظر الى «الاسلام كطاقة إما لك وإما عليك» هو ما فعله السوفييت والأميركيون في القرن العشرين، وقبلهم الفرنسيون والبريطانيّون. في مؤتمر باكو لشعوب الشرق، كانت قناعة لينين والبلاشفة، ان المدّ الثوريّ، وقد حوصر في أوروبا، من الممكن تفشّيه من جهة الشعوب الاسلامية. وفي أيام الحرب الباردة، كانت قناعة الأميركيين ان حلفاً اسلامياً يطوّق الاتحاد السوفياتي من جنوبه، ويعمل على تفكيكه في آسيا الوسطى، هو حاجة إلى حلف شمالي الأطلسي، وكانت أوّل الاستفاقة التركية على الهوية الاسلامية في سنيّ الحرب الباردة مرتبطة بهذا الهمّ، بصفتها الجامع بين الحلف الأطلسي وامتداده الاسلامي. 

أمّا النظرة الى «الاسلام» كمكوّن اجتماعي وثقافي عضويّ في مجتمعات ذات أكثرية مسيحية، فهذا ما تفعله روسيا وحدها من سائر البلدان ذات الأكثرية المسيحية، في الوقت نفسه الذي تقمع فيه قوميّاً ودينياً في آن، شعوباً اسلامية كثيرة هي جزء من الفدرالية الروسية، أو تساعد في قمع شعوب مسلمة أخرى كالشعب السوري. 

في المقابل، وبحجّة العلمانية، لا تزال المكابرة على الاعتراف بالاسلام كمكوّن كامل العضويّة في التراث الأوروبي الحديث هي جزء من الخلل القائم في عدد من المجتمعات الأوروبية وفي العلاقة بين ضفتي المتوسط. وهنا، هذه المجتمعات، ما بين «الارهاب الاسلاموي» و»رُهاب الاسلام» أمام أسئلة تفيض على هذه الثنائية وتزوي بها جانباً: هل المكوّن المسلم، التركي والكردي، جزء من الهوية القومية الجديدة للشعب الالماني، نعم أم لا؟ هل المكوّن المسلم، المغاربي خصوصاً، جزء من الهوية القومية الجديدة للشعب الفرنسي، نعم أم لا؟ العودة الى موّال «قبول المسلمين كأفراد ورفضهم كملّة» هو العودة الى النقطة التي أسست لتنامي أشكال الرياء في مقاربة المسألة اليهودية، ومن ثم لظهور معاداة السامية بالشكل الحديث، حيث تهمة اليهود مزدوجة: الاندماج زيادة عن اللزوم، وعدم الاندماج زيادة عن اللزوم. 

طبعاً، لا تجوز المماثلة بين اللاسامية ونطاقها وبين رُهاب الاسلام وأنماطه على طول الخط. علاقة الديانتين مع المسيحية تختلف، طبيعة العلاقة بين الدياسبورا الاسلامية في اوروبا وبين العالم الاسلامي مختلفة تماماً عن منطق الانتشار اليهودي. يبقى أساس التحدّي: لماذا تعجز المانيا وفرنسا، رغم ان حقوق المسلمين فيها هي أفضل مما للشيشان في روسيا بطبيعة الحال، من الإقرار بما تقرّ به روسيا، من مكانة عضوية للاسلام في بلورة هويتها القومية الجامعة؟ 

المانيا بلد ذو وجه تركي. فرنسا بلد ذو وجه مغاربي. آن الوقت لمثل هذا الإقرار، اذا ما أردنا الخروج من ثنائية «الرُهاب ينجب الارهاب – الارهاب يولّد الرُهاب».