IMLebanon

ماذا عن حملة «حلّوا عن إلهنا»؟!

كلام في السياسة |

قبل أكثر من ألف سنة، ذهب بعض سكان شرقنا هذا نحو القارة السمراء. هناك اكتشفوا إنساناً مختلفاً عنهم. وعلى قاعدة علاقتهم مع «الآخر»، أيّ آخر كان، جعلوا منه «عبداً». استعبدوه، لا في عمله وطريقة عيشه وحسب، بل حتى في مفهوم حياته نفسها، وصولاً إلى «تشييئه» و»تسليعه». صار بالنسبة إليهم شيئاً وسلعة، حتى باعوه لبعض سكان الغرب.

هكذا، ومنذ أكثر من تلك الألف عام نفسها، صارت العبودية عندنا مشكلة الغرب. تحولت في رأينا وعلمنا، «مسألة غربية» بحتة. لا علاقة لشرقنا بها ولا مسؤولية ولا محاسبة ولا حتى إعادة نظر. حمل الغرب قضية عبوديته وراح يتفاعل معها. بالدم والظلم والقهر والثورة. بالإصابة والخطأ. بالموت والحياة… لكنه تفاعل معها. حركت في وجدانه، في ضميره، وفي إنسانه شيئاً ما. فرضت عليه أبراهام لنكولن وقبله سواه ممن غيّروا مجال الحياة الفردية لهؤلاء البشر. ولم تتوقف المسألة عند هذا الحد. ظلت تتطور، حتى تمكنت في عصرنا الراهن من تغيير الحياة العامة للغرب نفسه. الغرب الذي عاش في غضون عقود قليلة، سلسلة روزا باركس التي «جلست»، كي «يمشي» مارتن لوثر كينغ، و»يجري» جيسي جاكسون في ترشيحه، حتى «وصل» باراك أوباما… كل هذا، ونحن في شرقنا العظيم لم نتمكن بعد من إلغاء تسمية «راس العبد» من رؤوس أطفال الإكس بوكس و»الإيمو»!

لماذا هذا الكلام الآن؟ لأن الإشكالية نفسها ــ إشكالية من المسؤول تاريخياً عن مأساة عبودية البشر، وبأي نسب وأي دروس وأي عبر ــ هي ذاتها تعود اليوم، عبر سؤال مأساوي آخر مماثل: من اغتال إيلان، ذلك الطفل السوري الكردي الذي غفا على رمل شرقنا القاتل؟

قيل كل الكلام عن مسؤولية بلاد الغرب. وكما في مسألة عبوديتنا، بدا أن جثة إيلان حرّكت شيئاً ما هناك. وقيل أيضاً كلام أقل بكثير، يسائل عن مسؤولية الشرق. عن هذا المدى الأسود الذي يقتل أهله أو يهجرهم أو يجعل منهم سلعاً لحكامه وآلهته. قيل كلام أقل من اللازم والواجب، عن مسؤولية أرض إيلان وشرقه وأهله وشعبه. ولم يتحرك شيء بعد.

لماذا؟ لأن سبباً أول، أساسياً وتأسيسياً لتلك المفارقة، يكمن في أصل مفهوم الأخلاق عندنا ربما. كأن هناك مفهومين لها. مفهوم الأخلاق المنبثقة من مفهوم الذنب. ومفهوم الأخلاق الملتصقة بمفهوم العيب. الذنب هو ما يكون فيك. هو ما تحسّه خطأً أو خطيئة وحدك، بذاتك ولذاتك. بينما العيب هو ما تحسّه خطأ في عيون الآخرين فقط. أن تكون أخلاقنا أخلاق ذنب، هو أن ندرك أخطاءنا وخطايانا وحدنا. حتى ولو لم يرها إنسان. أما أن تكون أخلاقنا أخلاق عيب، فهو أن تخطئ وتخطي، وتظل بلا خطأ ولا خطيئة، إن تمكنت من إخفاء ذلك عن عيون الناس. على قاعدة «… فاستتروا». لا تعود المعصية في ذاتها هي النافية للأخلاق، بل معرفة الآخرين بها. يمكنك أن ترتكب ما شئت أو استطعت من معاص. المهم أن تعرف كيف تسترها وتستتر. هذه هي أخلاق عقلنا وشرقنا. هذا ما صنع عبوديتنا للآخرين وعبوديتنا نحن. وهذا ما جعلنا منذ أكثر من ألف عام نجترح «غرباً» مسؤولاً عن كوارثنا، نرجمه ونحمّله عهرنا وتخلفنا وجهلنا وجرمنا، ونستتر ونرتاح.

من قتل إيلان؟ كثر طبعاً. آخرهم نظام استبداد وطنه. وما بعد آخرهم نظام الاستبداد الأكبر والأكثر، الذي هبّ على أرضه بذريعة أنه الثورة المنشودة لتحريره من استبداده الأول. وما بعد ما بعد آخرهم، غرب لم يستقبله وفوبيا إنسانية مرعبة اسمها على اسم الإسلام، وكل أمراض الغرب وكوارث لاإنسانيته.

لكن، قبل مسؤولية هؤلاء جميعاً، ثمة مسؤولية سابقة أولى عن اغتيال إيلان. إنها مسؤولية ألا يخرج صوت مرجعي واحد من عالم الإسلام السياسي، بكل مدارسه، يقول للعالم سنة 2015، إن هناك مساواة فعلاً بين كل البشر. ونقطة على سطر كل التمييزات. مرجع واحد يقول لأهل الشرق إن الحب موجود، وإنه مسموح، لا بل مطلوب ومرغوب. بلا عقد ولا كبت ولا عيب ولا خبث ولا ازدواجيات مريضة. وإن المرأة أجمل ما في الأرض. وإن كل جماليات الخلق حق، من موسيقى ورسم ونحت ورقص وشعر وأي آه تصدر عن صدر مبدع. مرجع واحد من أهل الإسلام السياسي يخرج ليقول لكل البشر، إنه لا جهاد ولا كفار ولا تكفير. وإن الناس أحرار. فعلاً وحقاً. لا يحكمهم إلا «الضمير الحر» في دائرة حياتهم الداخلية، وما اتفقوا هم على كونه شرائع وضعية لحياتهم العامة. وإن كل ما عدا ذلك غيبيات يوطوبية لم تخلف عبر التاريخ إلا المآسي والدماء. صوت واحد يقول للبشر، على طريقة حملة المثليين: حلوا عن إلهنا! لأننا أحرار في أن نعبده أو نرفضه أو نغيّره أو نبدّله أو لا نعرفه. على قاعدة «ومن شاء فليكفر».

صوت واحد، يقف فوق جثمان إيلان، يعلن أن غفوة ذاك الملاك لم تفتح أبواب الغرب لإخوته، بل فتحت باب الشرق لحياة لهم في الألف الثالث، لا الأول. وفتحت شرقهم على عصر الحرية. صوت واحد يصرخ غداة ذكرى 11 أيلول، ولا ينتهي كما الحلاج أو علي عبد الرازق أو محمود محمد طه… مخاطرة؟ ليست أكثر من رحلة إيلان، وكل الذين ينتظرون من إخوته بعده!