من المؤكد أن الحرب المزعومة على الإرهاب ستأخذ سنوات عدة باعتراف إدارتها من غير أن نعرف طبعاً نتائجها وتداعياتها مسبقاً. خلال هذه المدة الزمنية ماذا نحن فاعلون بدولنا وشعوبنا وأوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية وثقافتنا السياسية وعلاقاتنا كجماعات، كما صرنا نحدّد وجودنا وهوياتنا؟
نحاول أن نستجدي الأمل من دول عربية لا زالت تحتفظ بكياناتها وبعض استقرارها، ونغض الطرف عن تاريخها والكثير من سياساتها في الماضي والحاضر شرط أن تساهم الآن في وقف الانهيار العربي الشامل. نميل الآن إلى أن نكون محافظين أمام فشل الثورات العربية إزاء الثورة المضادة التي تضافرت لها حركات الإسلام السياسي وعنف الاستبداد والتدخلات الإقليمية والدولية. نريد الآن الحد الأدنى الممكن من مصر ومن دول الخليج العربي ومن تونس والجزائر والمغرب، مع علمنا بأن هذه الدول والأنظمة هي جزء من المشهد العربي ومشكلاته. ونريد لشعب فلسطين أن يحافظ على القضية وعلى القوى والمقومات الباقية حتى لا يكون هذا الزمن العربي والدولي بكل رداءته لحظة تصفيتها. نريد هذا القليل وربما لا نستطيعه حيال هذا الضياع العربي. وكذلك الأخطاء التي شاركت وتشارك فيها دول الجوار الإسلامي مع تقديرنا لمصالحها الذاتية.
هذه الواقعية المفرطة لا تنبع من «شعور بالإحباط» بل تنبع من رؤية البؤس الحقيقي النابع من غياب أي نقطة ارتكاز لمواجهة معركة باتت تتعلق بمصائر الشعوب العربية من زاوية وجودية. لا نخشى التقسيم أو تغيير الحدود بمقدار ما نخشى على المكونات الإنسانية التي قد تتعرّض وهي تتعرّض إلى الزوال. وزوال هذه المكوّنات بقطع النظر عن أحجامها مسألة تتعلق بمضمون الاجتماع السياسي العربي اللاحق. فالخطر الفعلي هو في غياب التنوّع حتى لو احتفظت كل جماعة لنفسها بكيان ودولة.
هذه الظاهرة التي بدأت لبنانية ثم أصبحت عربية شاملة لا تساعد على تطوير ثقافة المنطقة السياسية ولا بشكل خاص على إخراج الإسلام السياسي من وطأة الاتجاه السلفي الارتجاعي التقهقري إلى غياهب التاريخ.
مخاطر «الداعشية» كثيرة، ولكن منها «العدوى» المتصلة بقلب المناخ السياسي والثقافي كله إلى الخطاب الديني. فها نحن الآن مضطرون للنقاش في ما هو الإسلام، وأي إسلام نريد، وفي ما هي العلاقة «شبه المسلَّم بها» بأن الدين مكوّن أساسي للسلطة السياسية، أو هو مرجعيتها، ويا ليت ظلت تلك المجادلة في إطار «الدساتير» والبحث عن الأنظمة السياسية الأفضل أو عن نموذج لدولة المسلمين لا طبعاً دولة الإسلام.
المأزق الآن تراه الدول كما تراه من زاوية مصالحها، خاصة في الجانب الأمني، لكنه حقيقة مطروح على مستوى «الوعي» أو على مستوى «الإيديولوجيا» لجهة إمكان إيجاد نموذج لإسلام معاصر متعايش مع العالم، أو لجهة إمكان إيجاد ثقافة إسلامية متعايشة مع بيئتها الإسلامية على مختلف دوائرها. فالمسلمون ما كانوا يوماً إلا اتجاهات و«مذاهب» ولن يكونوا في حيوية فكرية أو تنافس إيجابي إلا بوصفهم كذلك، ولن ينقذوا تاريخهم من هذا الانحطاط إلا عن طريق «الاعتراف بالآخر المسلم» كجزء من الاعتراف بالآخر لأي هوية أو اتجاه انتمى.
وللأسف الشديد ما هو مسكوت عنه لأسباب تاريخية وسياسية، وخاصة قبل انفجار الإسلام السياسي ومجاهرته بكل ما هو مكبوت، وجود «التكفير» في كل دين ومذهب وعقيدة، ولو على مستوى العقائد قبل أن يتحوّل الأمر إلى عنف إلغائي ناتج عن مأزق الفشل في بناء الدولة الحديثة. الدولة المدنية المحايدة، دولة الحماية لحرية التفكير والضمير والاعتقاد والتعبير والحق في المشاركة عبر أشكال الأنظمة الديموقراطية أو التشاركية.
أوضاعنا في ما نرى أعمق سوءاً من عنف يقمعه عنف مضاد. ولا نجد مثالاً أبلغ من تلك المحطة التي اقترح فيها المفكر العربي عبد الرحمن الكواكبي مطلع القرن الماضي أن ينعقد مؤتمر في «أمّ القِرى» من إحدى مهامه «الإصلاح الديني»، أو أن نبحث عن صيغة لشنق آخر مستبد بمصران آخر رجل دين فاسد الرأي والسلوك، على ما جاء في إحدى خطب أحد أبطال الثورة الفرنسية.