تكتب لأجل أن تفصح. تساعدك الكتابة في تحديد أفكارك وتجهيزها للتواصل. ليس القلم هو الذي يكتب، أنت الذي يكتب. عندما يجري القلم كتابةً لا يكون هناك تفكير معمق، ولا تكون الكتابة تعبيراً عن معاناة، بل هي كلمات متداعية، أحياناً من دون ترابط، في معظم الأحيان ترداد لما هو مبتذل ومألوف.
تفصح للتعبير عن رأي، كتابة التداعي انتهازية ترمي إلى لفت نظر القارئ من دون جذبه نحو التفكير. الإفصاح تفكير متبادل بين الكاتب والقارئ، تواصل اجتماعي، علاقة اجتماعية، تطوير للمفكَّر فيه، خروج من ديماغوجية المألوف.
ديماغوجية القول المألوف تنقل أفكاراً قديمة إلى أوضاع جديدة تصفها وكأن شيئاً لم يحدث ولم يتطور؛ هي نوع من التحريض ضد ما هو موجود؛ الذي يجب أن لا يكون موجوداً. هو رفض الموجود كما هو، رفض الواقع، رفض المشاركة في تغيير الواقع. في الإفصاح تتخلى عن شيء من ذاتك، تتشارك به مع القارئ، في ديماغوجية القول المألوف تترك باب الفصل موصداً بينك وبين القارئ؛ لا تريده أن يفهم المضمر عندك. لا تفتح باب الفصل على مصراعيه ليصير باب وصل وتواصل.
تضمر غير ما تقول؛ تقول غير ما ينبغي أن يقال. تخرج نفسك من ساحة الحوار، من الفضاء العام، وتسعى كي تسحب القارئ معك إلى الانزواء والانعزال. أشكال الانعزال تنتقل من طائفة إلى أخرى في لبنان. كل الطوائف انعزالية حين تعتقد أن ذلك يناسبها.
الكتابة هي الخروج من العزلة والانعزالية؛ هي من أجل الانخراط في المجال العام؛ هي الحرية، والسياسة بأعلى مستوياتها (الذي لا يشمل الصراع على السلطة)؛ الانتقال إلى زمن الحوار الذي انحصر بين بعض القادة صار الناس لزوم ما لا يلزم. من المصادفات، أو ربما غير ذلك، أن انتشار الوسائل الرقمية يأتي من زمن اشتداد الاستقطاب وتفاقم التشنجات؛ زمن اعتبار المعلومة وجهة نظر، وهيمنة الانحياز المسبق وتقلص المجال العام، وضمور السياسة. ساهم المثقفون والكتبة في ذلك. أخذوا مواقعهم في الطوائف ولدى أرباب المصالح. صار الخارجون على الطوائف محشورين في صفحات الرأي. صفحات السياسة المحلية تقتصر على أخبار أهل السياسة، ممثلي الطوائف والمصالح.
لم يعد انحياز الوسائل الإعلامية متولداً عن قلق الحوار، وتعب البحث عن الحقائق، وتواضع الذات في البحث والتنقيب. استعلاء الذات على الموضوع وعلى الوقائع. ما عاد الحوار مولداً لأفكار جديدة، ولا محركاً لاجتراح حلول؛ صار مجرد أداة لإثبات وجهة النظر المسبقة. تضيق المساحة المشتركة بين الناس؛ يتوسع مجال المواقف والاتهامات.
فقد المثقف شخصيته. الكاتب في وسيلة إعلامية وضعه أسوأ. صار تابعاً للوسيلة؛ الوسيلة تابعة للطائفة ولأرباب المصالح. صار كاتب الرأي مثل قارئ نشرة الأخبار. وسائل إعلامية مختلفة التقنيات، لكنها متشابهة في الأداء والأسلوب.
يتقلص عدد القراء لأنهم في الغالب يقرأون ما سمعوه في الليلة السابقة على الشاشات. الإضافات الصباحية المكتوبة قليلة. الصحافة الاستقصائية معدومة. أخبارها أشبه بنشرات أو بيانات يزودها بها أهل السياسة وأرباب المصالح.
الوسائل الإعلامية محكومة بالإعلانات للتمويل، وهذه محكومة بأرباب المصالح وقادة الطوائف. هل تستطيع الوسائل الإعلامية فعل شيء لكسر الحلقة المغلقة، أم أنها لم ولن تفعل شيئاً؟ الجواب بالإيجاب هو الأرجح. التمويل قبل الرأي وقبل البحث الاستقصائي. النتيجة هي الابتعاد عما يزعج وعما يثير. كل ما يزعج ويثير يوضع في خانة التحريض. هناك خوف من التحريض. يعتبر التحريض تهمة.
المؤسف أن الوسائل الإعلامية ضحية التمويل لا ضحية الرأي. هل كان البحث عن الرأي وليد الفكر والحوار والسياسة جدياً؟ كل جواب على هذا التساؤل مشكوك في صحته. ربما كانت الوسائل الإعلامية ضحية نفسها لأنها لم تجدد أساليبها. كانت وما زالت ردات فعل أكثر منها بؤرا تتولد منها مبادرات جديدة. المشكلة في المضمون، إذن.
يعيدنا المضمون إلى إشكالية الكتابة والهدف منها. ليس المضمون الأكثر جدية هو الذي تكون الكتابة فيه أكثر تعقيداً وإبهاماً. بل أكثر إفصاحاً وإفهاماً. الكاتب الأكثر إفصاحاً هو الذي يكون أكثر فهماً للموضوع وأكثر إحاطة بمجريات العالم وما يحدث محلياً. بذلك يصير أكثر قدرة على تكوين رأي عام ولا يبقى سجيناً في المألوف.