Site icon IMLebanon

ماذا عن اليوم الذي يلي؟

 

«سئمت تكاليف الحياة ومن يعش     ثمانين حولا لا اب لك يسأم»         (زهير بن ابي سلمى)

 

ما هو مؤكّد هو انّه لا القرار الغبي بفرض تعرفة على وسائل التواصل الاجتماعي ولا عبثية أهل السلطة بشكل عام هما سبب اندلاع الثورة. ففي كل ثورة يأتي حدث ما ليصبح النقطة التي تطفح الكيل، أو الشعرة التي تقصم ظهر البعير.

 

فما يحدث اليوم لم يأتِ من العدم، بل هو نتيجة حتمية لتراكم خيبات الأمل التي أوصلت معظم الناس إلى اليأس، من إمكانية التغيير من دون حدث خارج المألوف.

 

لكن ما لم يره الحكم آتياً، هو إمكانية ان يتغلّب الناس على الانقسام المذهبي والطائفي، وتمكّنهم من كسر حاجز التبعية المطلقة لقائد أو زعيم.

 

من هنا، فإنّ الكارتيلات ذاتها، ومن مواقع متضاربة، كانت تراهن على هذا الانقسام وصبّ الناس بسببه على حمل ما لا يمكن حملانه، في مجتمع غير معتاد على السكوت والصبر مثل مجتمعنا.

 

لا اريد هنا ان اعطي الانطباع بأنني أتلو فعل ندامة ما لكي ادخل في معسكر النفاق المتمادي في تبني الثورة أو الادّعاء بالانتماء اليها، ولا ركوب الموجة لمجرد انّ الوقوف بوجهها مُكلف سياسياً، فانتمائي لم يتغيّر وما زلت كما كنت.

 

لكن بكل صراحة وموضوعية، لا أظن انّ شعبنا هو مجرد ضحية الكارتيلات أو انه بريء من دم الصدّيق، فنحن جزء مكمّل للعبة الإقطاع السياسي المذهبي المستدامة منذ اخترعنا بدعة اسمها الشراكة الوطنية. لقد دخل جزء كبير من شعبنا في لعبة الريعية والابتزاز المتبادل ما بين السلطة والمواطنين، وقد يكون احد محرّكي الثورة اليوم هو نضوب مصادر الريعية بشقيها المستند إلى المال العام والمال الخاص، بشكل لم يعد بإمكان الكرم فيه ان يغطي عيوب الإقطاع السياسي، و»من كان منكم بلا خطيئة فليرمه بأول حجر».

 

صحيح انّ جزءاً من اللبنانيين يعمل بكدّ وجهد لكسب أرزاقه، وآخرون اخرجوا أنفسهم من لعبة السلطة بحكم طبيعة عملهم، لكن لو نظرنا إلى واقع القطاع العام كمثل، وأحصينا نسبة من يقبض ولا يعمل بحكم علاقته مع الإقطاع ذاته، أو من يعمل ربع الوقت أو يعمل من دون فعالية أو يرتشي وهو محمي ولا يخاف لائمة، لفهمنا حجم المشاركة الشعبية في اللعبة التي أدّت إلى تطويل عمر منظومة التواطؤ المصلحي بين الناس والسلطة.

 

لكن في النهاية، فقد طفح الكيل، وحدثت الثورة ورُفعت شعارات «كلن يعني كلن»، وبالرغم من قناعتي بإجحاف شمل الكل على قدم المساواة. لكن الحق يُقال «انّ الساكت عن الحق هو شيطان اخرس»، وهو بالتالي مسؤول حتماً عن سكوته وهو في موقع المسؤولية، ومن هنا فانّه لا وقت للثورة لتفرّق وتصنّف درجات المشاركة في المسؤولية ليصبح الكل سواسية. وبالتالي فما يحدث اليوم، هو انّ الجميع تخطّى حاجز الحذر وتجنّب اتهام، وحتى شتم، من كان يعتبر انّ رهبة شخصه ستبقيه محصّناً في موقعه بحكم السطوة والقداسة.

 

ما لنا ولكل ذلك الآن؟ فالسؤال الملح اليوم، هو ماذا عن اليوم التالي؟

 

فالثورة هي لحظة في التاريخ ليس الّا. وفي حال استمرت اكثر من لحظتها فانّها ستتحول حتماً إلى فوضى عشوائية. والأسوأ يأتي عندما تدفع الفوضى الناس إلى الخضوع للطغيان لتفادي العشوائية، أي القبول بديكتاتورية ما.

 

ومن يقرأ التاريخ يعي تماماً حتمية ما أقوله. لذلك، فانّ أفضل الخيارات اليوم، في ظل الواقع الدستوري المعقّد في إنشاء الحكومات، هو ان تأتي الحكومة بإصلاحات جدّية وجذرية قادرة على إقناع معظم الناس بجدواها، وبالتالي التريث وإعطاء فرصة جديدة تحت الرقابة. وعندها لن يبقى في الشارع الّا من يسعى إلى الفوضى بحجة ان لا ثقة بالنظام.

 

الخيار الثاني، هو ان تذهب القوى السياسية إلى اتفاق على إنشاء حكومة من الاختصاصيين، بالرغم من اعلان «حزب الله» على لسان امينه العام رفض هذا الحل، ومن ثم تستقيل الحكومة، وتجري استشارات سريعة تُعلن إثرها الحكومة المصغّرة ليبدأ العمل على الإصلاحات المقترحة.

 

الخيار الأسوأ هو ان تستقيل الحكومة من دون بديل جاهز، وبالتالي الغرق التقليدي في إنشاء حكومة، فيغرق البلد في الانهيار المتسارع، والأهم في سعر صرف الليرة ، فتحلّ الفوضى، ومن بعدها العشوائية التي لا يُعرف لها نهاية. وهذا الكلام ليس للتهويل، بل هو نتيجة معرفة دقيقة بواقع الأمور.

 

قد يكون اليوم من السهل رفع شعار إسقاط النظام، وهو شعار محق ومنطقي، لانّ هذا النظام فشل في تأمين الاستقرار للناس. لكن إسقاط نظام من دون رؤية لنظام آخر يعني السقوط في المجهول، مع العلم انّ سلاح الطوائف جاهز فوراً لينزل إلى الشارع ليكون البديل.

 

الأمل اليوم هو في واحد من الحلّين الأولين، فمن شهد ما حلّ بنا وما حلّ بمن هم حولنا، يعلم تماماً تبعات ان يسقط كل شيء فجأة من دون بديل.