الأرجح أنّ قصة ترشيح النائب سليمان فرنجية قاربت نهايتها. وبدأ الجميع يكتشف أنها نسخة منقحة من سيناريو المفاوضات مع العماد ميشال عون قبل عام ونصف العام. والسؤال هو: بعد أن ترسو اللعبة على خواتيمها، هل سيكون الفشل مبرِّراً لاستمرار الفراغ أم لاستيلاد «الرئيس التوافقي»؟
بادر النائب وليد جنبلاط إلى تسويق فكرة ترشيح فرنجية. ومن خلال علاقاته مع القوى الدولية والإقليمية، عمل على إقناع الجميع به. وقد تلقَّف الفكرة سفير الولايات المتحدة ديفيد هيل في الدرجة الأولى. وقدّم فرنجية دفعة على الحساب، مقابل دعمه، عندما تمايز عن سائر القوى المسيحية في الموقف من الجلسة التشريعية.
في اعتقاد جنبلاط أنّ تسويق فرنجية في فريق 8 آذار، سهل. فهو ركنٌ أصيل فيه. ولذلك، بذل جهده لإقناع المحور الآخر، أيْ الرئيس سعد الحريري والمملكة العربية السعودية به. وهنا استنجد بأرشيف العلاقات الوطيدة بين العرش السعودي والرئيس سليمان فرنجية الجدّ.
ووجد جنبلاط في الرياض قبولاً بمبدأ الحوار. وأما التفاهم على انتخاب فرنجية فمرهون بإثبات أنه توافقي وبأنه لن يضع البلد في محور دمشق- الأسد.
وبدا الحريري مهتماً، إضافة إلى ذلك، بالسلة الكاملة التي تشمل خصوصاً قانون الانتخاب، وطبعاً رئاسة الحكومة المقبلة. فصحيحٌ أنّ عودة الحريري إلى بيروت غير مضمونة للأسباب المعروفة، لكن الحريري قادرٌ على تسمية رئيس الحكومة إذا لم يكن هو شخصياً في السراي.
وفي تقدير الحريري أنْ لا شيءَ يمنع من فتح حوار مع فرنجية، ولو انتهى على الطريقة التي انتهى فيها الحوار مع عون. فعلى الأقل، هذا يمنح الحريري صورة القيادي السنّي القوي، صانع رؤساء الجمهورية، ولو بعيداً في الخارج.
وأراد جنبلاط من طرح اسم فرنجية إصابة عصافير عدة بحجر واحد:
1- يقول خصوم جنبلاط إنّ مسار الحرب السورية أظهر أنّ الرئيس بشّار الأسد باقٍ في مستقبل سوريا. وليس لجنبلاط مَن هو أفضل من فرنجية لتوفير غطاء سياسي له في لبنان، في موازاة الغطاء الإيراني الذي يوفّره «حزب الله». لئلّا يدفع هو والدروز ثمناً باهظاً في التسويات الآتية إلى سوريا ولبنان.
2- يريد جنبلاط أن يكون عرّاب التسوية، وأن يقطف ثمارَ وساطته. فالصفقة الشاملة المحتمَلة سيحرص فيها جنبلاط على أمر واحد هو: قانون الانتخاب. فهو يخاف من مجيء مسيحي يملك حيثية تمثيلية لدى مسيحيي جبل لبنان، كميشال عون مثلاً، يقوم بتفصيل قانون الانتخاب على قياسه. وهذا ما يقلِّص موقع جنبلاط من زعامة الجبل ككلّ إلى زعامة الدروز في الجبل.
3- في الحدّ الأدنى، إذا فشلت التسوية، يحترق فرنجية أيضاً كسواه من «الأقطاب». وفي ظلّ الاقتناع بفشل إيصال عون أو الدكتور سمير جعجع أو الرئيس الجميل، يصبح مبرَّراً الإصرار على مرشح توافقي. ويكون ممكناً إقناع الجميع، بمَن فيهم بكركي به.
والعارفون يقولون إنّ هذا الخيار هو المفضل تقليدياً لدى المختارة، لأنه يبرِّر طرحَ مرشح توافقي من نوع النائب هنري حلو، أو هو نفسه، إذ لا عداءَ بين حلو وأحد، وهو من بيت سياسي ماروني يحتفظ بعلاقة طيّبة مع بكركي.
على الأرجح، تقترب التسوية المزعومة من الحائط المسدود. والحريري واعٍ تماماً لحدود اللعبة. ويمكن اختصارها بالأسئلة الآتية:
– ما الذي سيجنيه الحريري إذا ربح فرنجية، الحليف الأصيل للأسد، مقابل خسارة حليفه جعجع بما يمثّله شعبياً، وخسارة حزب الكتائب على الأرجح، ومسيحيين كثر من حلفائه؟ ومَن هم شركاء الحريري المسيحيون في هذه الحال؟ وهل السعودية التي انفتحت على جعجع والكتائب ستشجّعه على طلاق رفاقه وفرط 14 آذار؟
– كيف ستتعاطى القواعد «المستقبَلية» والـ14 آذارية عموماً مع ترشيح الحليف الحميم للأسد؟ وما انعكاس الانقلاب السياسي على شعبيّة «المستقبل»؟
– هل يتحمَّل الحريري أن يُقال له إنه فرض رئيس الجمهورية المسيحي رغماً عن بكركي وسائر القوى السياسية المسيحية؟
الأرجح أنْ لا مجالَ لمرور التسوية إلّا في حال واحدة، وهي أن تكون القوى الدولية والإقليمية مستميتة لتأمين ملء الفراغ الرئاسي في لبنان، رغماً عن الجميع. ولكن ما هو ظاهر، حتى على مستوى الحراك الذي تقوم به السفارة الأميركية، لا يتجاوز الوساطات والتمنّيات.
وهناك خياران مُتاحان بعد استنفاد الملف، وهما: إما استسلام الجميع أمام مرشح توافقي ما، وإما الاستمرار في الفراغ الرئاسي الذي لا يزعج أحداً من الأقوياء، لا في الداخل ولا في الخارج.
وبات واضحاً أن من غير الوارد انتخاب رئيس للجمهورية من بين الأقطاب المسيحيين الأربعة الذين جمعتهم بكركي ذات يوم، وجرى التعارف الى أنهم «أقوياء المسيحيين». وفي المبدأ، ليس في مصلحة «أقوياء المسلمين» أن يأتوا بالرئيس المسيحي القوي في طائفته، لأنه ما أن يصل إلى القصر حتى يشكّل حيثية قادرة على الاستقطاب، كما كانت الحال قبل اتفاق الطائف.
لقد أنهى الطائف مرحلة المسيحي القوي في رئاسة الجمهورية. وكان الرئيس أمين الجميل آخر رئيس يمثِّل حزباً مسيحياً فاعلاً. وبعده، جاء الرؤساء من خارج التمثيل السياسي المسيحي. وربما كان الرئيس رينيه معوّض يرغب في «تدشين الطائف» بمعايير تحفظ للرئاسة موقعها. فعاجله
الاستشهاد.
الأحزاب المسيحية تتفاءل بأنّ الوقت قد حان لاستعادة التوازن، بحيث يأتي الرئيس من دائرة التمثيل المسيحي، وتحديداً بكركي و»أقطابها الأربعة». لكنّ المتفائلين أنفسهم لا يقومون بشيء للخروج من التبعية.
فالتصارعُ المسيحي يتكفَّل بمنع تحقيق هذا الهدف، ويوفِّر الفرص لـ»الأقوياء» في الطوائف الأخرى باللعب على التناقضات والمجيء بالرؤساء الذين لا يتمتعون بقوة تمثيلية مسيحية. وهو ما يحصل اليوم في سيناريو ترشيح فرنجية، بعدما حصل في سيناريو ترشيح عون.
لقد أحرقوا فرنجية… فاكتمل إحراق المسيحيين الأقوياء. والأحرى أنّ هؤلاء أحرقوا أنفسهم بأنفسهم لأنهم لم يتوافقوا على المرشح المسيحي القوي، الذي يفرض حضوره واحترامه على الجميع.
فهل يستوطن الفراغ جدران بعبدا في صقيع شتاء آخر، أم يخرج «الأرنب» من قبعة الساحر فجأة ويفاجئ الجمهور؟