تأليف الحكومة انتهى، وما هي إلّا ساعات وتُعلن التشكيلة الجديدة لينتقل التركيز بعدها إلى البيان الوزاري، قبل أن تستعيد الحياة السياسية حركتها الطبيعية في ظل سؤال مركزي يطرح نفسهُ: ماذا بعد تأليف الحكومة؟
المبرّر الأساس لهذا التساؤل، انّ الخلافات التي خرجت إلى سطح الأحداث لم تكن وليدة ساعتها وتتصل بمجرّد نزاع على أحجام وأوزان أو تباينات حكومية ومآخذ متبادلة، إنما تتعلّق بالمرحلة المقبلة واستحقاقاتها، وفي طليعتها الإنتخابات النيابية في ربيع سنة 2022 والانتخابات الرئاسية في خريف السنة نفسها.
فالخلافات القوية التي اندلعت في الأشهر الأخيرة كانت في صلب المعركة الرئاسية واستطراداً النيابية، ولا ينفع إخفاء هذه الحقيقة عبر التلطي وراء عناوين تجميلية أو حجج واهية، حيث كل الهدف كان تحسين شروط المواجهة من خلال إرساء توازنات جديدة تسمح لأصحابها الدخول بارتياح في المعركتين النيابية والرئاسية.
والمواجهة التي فُتحت مع الإنتخابات النيابية بدءاً من هندسة التحالفات وصياغتها مروراً بتطويق «المردة» في زغرتا، وصولاً إلى إعادة شيطنة «القوات»، كان الهدف منها التخلُّص ديموقراطياً من كل خصم رئاسي والتأسيس لتوازنات جديدة على مستوى الحكومة، تضع الجميع أمام خيار واحد. ولكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر، من نتيجة الانتخابات إلى المصالحة بين «القوات» و»المردة».
والسؤال الذي سيُطرح بقوة في الأسابيع والأشهر المقبلة هو الآتي: كيف يمكن لحكومة أن تكون منتجة ومنسجمة في حال كانت حسابات مكوناتها تسجيل النقاط بعضها على بعض، ومحاصرة بعضها للبعض الآخر، وإقفال الطرق الرئاسية بعضها على بعض؟
وعلى رغم من أنّ كل المكونات ستنفي هذا الأمر وتؤكّد ضرورة الإنسجام والإنتاجية، وفي طليعتها الوزير جبران باسيل الذي فتح بعلم مسبق او من دون أن يدري المعركة الرئاسية، بدءاً من الانتخابات النيابية وصولاً إلى طريقة تأليف الحكومة. إلاّ انّ الخلفية التي ستتحكّم بكل المكونات ستتمثل بإعداد العدّة للانتخابات الرئاسية، كلٌّ وفق أجندته وتحالفاته وحساباته.
وفي حال بقي لبنان في منأى عن الأزمات العابرة للحدود التي تعيد الإنقسام إلى شكله السابق بين 8 و14 آذار، ولا مؤشرات إلى فتح مواجهات من هذا النوع تؤدي إلى ضرب الاستقرار السياسي ولا تؤدي إلى أي نتيجة، فإن المشهد الحكومي سيكون مبدئياً على الشكل الآتي:
ـ أولاً، يمكن اعتبار انّ «شهر العسل» الذي شهدته الحكومة الأولى للعهد بين المكونات التي انتخبته وأوصلته إنتهى إلى غير رجعة، لأنّ هذه الحكومة كانت إختبارية في ظل نيّات صافية لإنجاح المرحلة التي دخلتها البلاد مع رئيس جديد للجمهورية وآمال بإنجازات تنقل البلد إلى مكان أفضل بالتأكيد. ولكن النزاعات التي شهدتها على خلفية الأداء الحكومي وما انتهت إليه أدّت إلى زعزعة العلاقات بين المكوّن الرئيسي المتمثل بباسيل وسائر المكونات.
ـ ثانياً، المكونات الحكومية الأساسية في الحكومة الأولى والثانية هي نفسها مع فارق أساس وهو، إعتيادها بعضها على بعض وتقاطع معظمها على ملفات محدّدة لا تلتقي فيها مع الوزير باسيل، وهذا السبب بالذات كان وراء سعيه إلى الثلث المعطِّل من أجل قطع الطريق على أي اتفاق يمكن ان تتوصل إليه في ملفات محددة.
ـ ثالثاً، الإختلاف الجذري بين الحكومة الأولى المفتوحة على انتخابات وحكومة ستليها، وبين الحكومة الثانية التي ستكون الأخيرة في العهد، إذا لم يطرأ ما يستدعي استقالة رئيسها أو ثلث أعضائها، وبالتالي ستختلف الحسابات وطريقة التعاطي.
ـ رابعاً، الخلافات التي نشبت على خلفية تطويق هذا وتحجيم ذاك يصعب احتواءها بسهولة، بل ستكون كالجمر تحت الرماد، وبالتالي يرجّح ان تتخذ طابع الحدّية أكثر فأكثر، لأنّ حسابات كل فريق ستكون مرتبطة بما بعد هذه المرحلة.
ـ خامساً، يستحيل أن تتمكن الحكومة من أن تنأى بنفسها عن الأولوية الرئاسية التي ستطغى على كل ما عداها على رغم من انّ الاستحقاق الرئاسي سيكون بعد أربع سنوات، إلاّ ان طبيعة النزاع شكلاً وجوهراً سيتمحور ويتركّز حول العنوان الرئاسي.
ـ سادساً، الخطأ القاتل الذي ارتكبه باسيل، انّه لم يوفِّر أحداً في مواجهاته، فيما كان الحري به أن يلعب دور الحاضنة والجسر لتلاقي كل تلك القوى التي ستتحصّن في المرحلة المقبلة حماية لنفسها واستعداداً للآتي من الاستحقاقات.
وإذا كان كل الأمل أن لا يكون ما تقدّم صحيحاً، وان تنجح الحكومة في تكوين فريق عمل متجانس يضع الاستحقاق الرئاسي جانباً ويعمل على تحقيق انجازات على غرار انجاز قانون الانتخابات الذي يُسجّل للعهد، وذلك من قبيل معالجة هموم الناس الحياتية والمعيشية والاقتصادية، إلّا انّ الوقائع شيء والتمنيات شيء مختلف تماماً.