لم يكن قرار القيادة السنّية احتضانَ الجيش وقطعَ الطريق على المتطرّفين قراراً سهلاً.
أوحى التراكم في الأحداث من اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إلى أحداث السابع من أيار، إلى إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري وتهجيره إلى الخارج خوفاً من الاغتيال، إلى أحداث الشيخ أحمد الأسير، إلى القتال في سوريا، بأنّ طائفة بكاملها تتعرّض لاستهداف واضح، يسلك أحياناً طريق الاختباء خلف المؤسسات.
ليس سرّاً أنّ أكثرية الطائفة السنّية هي مع الاعتدال الذي يُمثّله خيار تيار «المستقبل»، لكن لم يعُد مؤكّداً أنّ هذا الاعتدال ما زال بالقوّة نفسها التي كان عليها قبل أن يتعرّض لكلّ هذا الاستنزاف.
في كلّ محطة من هذه المحطات، كان جزءٌ من السُنّة يفقد الأمل بخيار الدولة، وينحو إلى التفكير في خيار المواجهة مع «حزب الله» وما يمثّله. وعلى الرغم من أنّ الغالبية ما زالت صامتة، إلّا أنّ أيّ مراقب يستطيع بسهولة، متى أتيح المجال لقول الحقائق، الإدراك أنّ هناك نقمة موجودة ويتمّ التعبير عنها بطريقة أو بأخرى، لكنّ ذلك لا يعني إلى الآن، أنّ خيار الطائفة السنّية بات خيار التطرّف، أو الاستقالة من الدولة والتوجّه الى الأمن الذاتي.
يقول أكثر من مرجع إنّ القوى الأمنية تأخّرت كثيراً في معالجة موضوع طرابلس والمنية. كان في الإمكان منذ أسابيع أن يقتصر تفكيك اللغم على بعض التوقيفات وينتهي الأمر، لكن من غير المعروف لماذا حصل التأخير. تشير المعطيات الى أنّ ما خطّط له المسلحون لم ينجح بسبب امتناع الشارع الشمالي من احتضانهم، ولو حصل ذلك لما تمكّن الجيش من إتمام مهمّته.
منذ صباح اليوم التالي للاشتباكات، كانت القيادات الطرابلسية السنّية في أجواء اتخاذ قرار حاسم. وقد تُرجِم القرار فوراً بدعم الجيش، وعدم إعطاء أيّ فرصة للمسلحين لكي يشكّلوا قاعدة انطلاق في أيّ منطقة.
في هذا الإطار جاء موقف اللقاءين في منزل المفتي مالك الشعّار ووزير العدل اللواء أشرف ريفي متكاملاً، وكان الجميع على تواصل مع الرئيس سعد الحريري، حيث ترجم التوجّه بإعلان صريح دعماً للجيش، ونزعاً لما ردّده بعض المشايخ من أنّ ما يحصل هو «حرب على أهل السُنّة».
إنطلق موقف القيادة السنّية من اعتبارات عدّة، أبرزُها ما يتعلق بضرورة حماية الجيش، وعدم السماح للأصوات المتطرّفة بأن تؤثر على وحدته. هذا التوجّه طُبّق في كلّ المحطات الإشكالية، خصوصاً في 7 أيار، وفي حادثة الأسير، حيث حرصَ الحريري على الاتصال بقائد الجيش العماد جان قهوجي خلال المعركة وبعدَها، مؤيّداً التمديد له في قيادة الجيش، وكذلك فعَل في أحداث طرابلس.
الأسباب العميقة لما حصل في الشمال باتت معروفة. «حزب الله» الذي يُعرّض بسياساته مؤسّسات الدولة، ولا سيّما منها الامنية والعسكرية، لاستنسابية المعايير، مستمرّ في قتاله في سوريا وباستيراد التطرّف من سوريا إلى لبنان، هذا التطرّف الذي يستولد تطرّفاً لبنانياً ينمو على إيقاع الحرب المذهبية في سوريا.
هذا الواقع لم يعُد ممكناً تغطيتُه بحملات إعلامية وسياسية تتّهم كلّ مَن يعارض قتالَ الحزب في سوريا بأنّه «داعشي»، في حين أنّ الحزب بممارساته، يضع الاعتدال في زاوية ضيّقة، ويفتح الطريق أمام المتطرّفين ليجلسوا وراء المقوَد، باسم شعار إعادة التوازن، والرد على الحزب بأساليب الحزب.
من غير المعروف إلى متى سيصمد الاعتدال في الحفاظ على قوّته، فالتيار السنّي المعتدل بات يصرف من مخزونه الأساسي، وكلّما طالت الأزمة في سوريا واشتدّ الاحتقان المذهبي، سيكون من الصعب الاستمرار في تهدئة الشارع السنّي. فهل هذا ما يريد «حزب الله» أن يتوصّل إليه؟