Site icon IMLebanon

ما لا يُصدَّق في تركيا اليوم

تخيَّل جريدة “النهار” أو “السفير” أو “لوريان لوجور” أو غيرها في لبنان والعالم العربي أو جريدة “هآرتس” أو”يديعوت أحرونوت” أو “جيروزالم بوست” في إسرائيل تُصادَر ملكيَّتها وتُطرَد إدارتُها خلال 24 ساعة من صدور حكم قضائي عن إحدى المحاكم بوضع اليد عليها بناءً على دعوى رفعها محامو رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء و حزبه الحاكم بسبب موقفها السياسي المعارض. هذا بعض ما يحصل في تركيا للمرة الثانية خلال أشهر و”تؤمَّم” مجموعة صحافية ثانية كلٌ منهما ينتمي إلى حساسية سياسية مختلفة. شيء لا يُصدَّق! هذه هي تركيا اليوم.

كمتابع مزمن للشأن التركي ومعجب منذ أكثر من ربع قرن بالنموذج التركي للحداثة في العالم المسلم… أصبحتُ غير متأكِّدٍ أن رجب طيِّب أردوغان يعرف بالضبط ماذا يفعل، كرئيس وكشخص.

لا أريد أن أسمّيه مجنونا، ولا يجوز، مع أن تصريحه قبل أسبوعين تعليقا على قرار المحكمة الدستورية إخلاء سبيل رئيس تحرير جريدة “جمهوريت” جان دوندار ومدير مكتبها في أنقرة إردم غول بعد سجنهما بتهمة ” الخيانة” بسبب كشفهما قبل أشهر عملية نقل أسلحة عبر الحدود التركية إلى سوريا (والأرجح إلى “داعش”)… يمكن أن يُحمَل على محمل الجنون الذي أخذ يقترب من شخصيات ديكتاتوريي أميركا اللاتينية “الخالدين” في كتب ماركيز وليوزا وغيرهما.

قال رجب طيّب أردوغان في ذلك التصريح ما لا يمكن أن يصدر عن رئيس دولة ديموقراطية أو تدّعي الديموقراطية: لا أحترم قرار هذه المحكمة ولن ألتزم به!!!

نعم قالها. حتى أن معظم الأوساط التركية كادت لا تصدِّق ما سمعَتْ.

وها هو قبل أيام يستصدر قراراً من إحدى المحاكم يعيِّن مجلس إدارة جديداً للشركة المالكة لصحيفة “زمان” المعارضة والقريبة من حركة فتح الله غولن، ويطرد مسؤوليها بقوة الشرطة يوم السبت المنصرم وسط عملية اقتحام بالغاز المسيِّل للدموع أثارت، كحكم قضائي، دهشة العالم وفي مقدمه البيت الأبيض الذي أصدر موقفا ضده.

من “جمهوريت” أعرق الصحف التركية التي صدرت مع إنشاء الجمهورية في العشرينات من القرن المنصرم إلى “زمان” أوسع الصحف التركية حالياً، يمسّ الرئيس أردوغان بتيارين الأول علماني عريق والثاني معتدل ودَعَوي وحاسم في خياره الثقافة الغربية.

لن نسرد مسلسل سلوكياته الفظيعة والمتراكمة منذ حوالي ثلاث سنوات بدءا من قمع مظاهرات تقسيم الشبابية الثقافية البيئية صيف عام 2013 إلى إنجازه بناء القصر الرئاسي الفضائحي في أنقرة الذي تجاوزت تكاليفه الستماية مليون دولار وبعض المصادر التركية يقول أكثر… هذه وغيرها باتت معروفة.

هناك نمط قمعي للصحافة يستحدثه أردوغان هو تغيير الملكية القانونية للصحيفة المعارضة، وهذه هي المرة الثانية التي يلجأ فيها خلال عام إلى هذا الإجراء.

صحيح أن رجب طيِّب أردوغان يبدو اليوم في ذروة قوته أو في ذروة إحساسه بقوته، لكني أعتقد أن تجربته دخلت مرحلة السقوط الذي بات لا يمكن تلافيه. ولهذا سننتظر المزيد من إجراءات متعسفة وقمعية سيقوم بها. وهذه ظاهرة معروفة في التاريخ السياسي وهي أنه كلما استشعر الحاكم قرب السقوط رد على ذلك بالمزيد من الهجوم.

لن أدخل في التوقعات. ولكن لأول مرة ربما بعد مواقفه ضد القانون (إدانة المحكمة الدستورية) انتقل عهد أردوغان من مرحلة إيذاء النموذج التركي للحداثة الذي يمثل الدولة المسلمة الأكثر حداثة وديموقراطية إلى مرحلة ضرب هذا النموذج التركي. وهذه خسارة كبيرة بل نكبة كبيرة هي التي تنهي في العمق تجربة أوروبية لتركيا ورهانا على أوروبا ذا جذر تاريخي.

تراجعت تركيا كثيرا عن عهد ” الديموقراطية الناقصة” أيام وصاية الجيش على الحياة السياسية. تركيا اليوم هي في مرحلة إلغاء الديموقراطية.

إنها لمفارقة كبيرة أن يكون الشخص الذي قاد أكبر وأنجح عملية نزع الوصاية العسكرية عن الحياة السياسية التركية هو نفسه الذي يقود اليوم أكبر عملية تدمير للحيّز الديموقراطي التركي. وينقل بلده من مرحلة الديموقراطية الناقصة إلى مرحلة اللاديموقراطية.

ثمة ملامح هتلرية جدية في ما آلت إليه تجربة أردوغان: وصول إلى السلطة عبر تيار شعبي كاسح، هو الآن أكثري ولم يعد كاسحا، واستلام السلطة بشكل دائم وعدم السماح بأي تغيير مهما كلّف الأمر من إثارة حروب خارجية وداخلية. أي استخدام الديموقراطية الشعبوية للقيام بانقلاب بوليسي ومصادرة الدولة. على أي حال هو شبّه نفسه مؤخرا بهتلر وأثار استنكارا بقدر ما أثار السخرية.

صورة الدمار في مدينة سيزر الكردية القريبة من الحدود مع العراق وسوريا صدمت العالم والأتراك من حيث حجم التدمير في حرب داخلية ورّط فيها أردوغان الجيش التركي، إلى حد وصفت “النهار” هذا المشهد، وعن حق، بأنه يذكِّر بالتدمير في سوريا.

تركيا الآن في هذه الحقبة. قمعٌ بل مصادرة غير مسبوقة للصحافة، استخدام فج للقضاء وتحقير ما تبقى من جزر مستقلة فيه وتغيير بنية الشرطة عبر تسريحات طالت آلاف الضباط.

كمتابع للشأن التركي أستشعر غليانا خطيرا لا يمكن أن ينتهي على خير في تركيا.

يبقى الاقتصاد هو الذي لا يزال يغطّي وجه أردوغان ولكن علامات أزماته بدأت تظهر على السطح وتفتح على احتمالات خطرة بينها تراجع سعر الليرة.

لم يعد بعد اليوم، وخصوصا بعد عدم اعترافه بالمحكمة العليا ثم بعد مصادرته لأكبر الصحف المعارضة، ممكناً اعتبار تركيا بلدا ديموقراطياً أو حتى شبه ديموقراطي.

ما هو مؤسفٌ عميقاً بل وخطِرٌ أن حكم الرئيس رجب طيِّب أردوغان بدأ حضاريا يعيد تركيا إلى تخلّفنا في المنطقة بدل شدّنا عبرها إلى أوروبا والغرب. وهذا ما كان، جوهرياً، رهاننا على النموذج التركي كنموذج يتطور ويطوِّر في عالمنا الشرقْ أوسطي والمسلم تحديدا. أنا لا أخجل ولا أتردّد في إعلان هذا الرأي.

دور سمسار لجوء الهاربين من سوريا المنكوبة في مشهد مخجل بقدر ما يستدعي التعاطف الانساني، ليس هو الدور الحضاري. مصالحة الإسلام مع الحداثة هو “السمسرة” المعاصرة المطلوبة مع المستقبل.

ودور تقليد ديكتاتوريي المشرق ليس هو الدور المنتظر بل دور المساهمة في صناعة التقدم الديموقراطي في بلداننا نفسها.

لذلك، أشعر كصحافي أن الطوق الذي يضيق حول عنق الصحافة التركية يمس الصحافات اللبنانية والعربية والإيرانية.

لكنْ سنتمسّك مع النخب التركية الليبرالية و العلمانية الواسعة بـ ” النموذج التركي” الذي لا بد أن يطيح، ديموقراطيا، بأردوغان بعدما أصبح هذا الأخير عبئا على تركيا.

أخيرا هل تملك نقابتا الصحافة اللبنانية جرأة التضامن مع الزملاء الأتراك والصحافة التركية كما يفعل كل العالم الغربي؟