ثمة تشابه كبير بين المواجهة «العبثية» مع «طواحين الهواء»التي يخوضها الكاردينال بشارة الراعي في استراليا مع «المثالثة» والمؤتمر التأسيسي، وبين ظن رئيس تيار المستقبل سعد الحريري ان ما يطلقه بين الفينة والاخرى من كلمات ترقى الى مستوى المبادرة تجاه الفريق الآخر، فالقاسم المشترك بين الرجلين انهما يحاولان تبرير العجز والفشل في ادارة الملفات برمي الكرة في ملعب «حزب الله» لتحميله المسؤولية، وادانته، وليس فتح قنوات حوار جدية معه.
هذه الخلاصة لاوساط سياسية رفيعة في 8 آذار، تشير الى ان هذه «العقلية» في التعامل مع الملفات الساخنة لا تصلح لفتح قنوات جدية للتواصل بين الفرقاء على الساحة اللبنانية، فالكاردينال الراعي يعرف جيدا ان «المشكلة» داخل البيت الماروني وليس في أي مكان آخر، ويعرف جيدا ان اي اجماع من قبل القوى الرئيسية المسيحية على هوية رئيس للجمهورية العتيد، لن يجد من يمنع وصوله الى قصر بعبدا، ولذلك فان تحميله حزب الله المسؤولية، فليس الا من باب الهروب من تحمل عبء الاخفاق الذي تتحمل جزء كبير منه بكركي بسبب عدم تمسكها بمبدأ وصول رئيس مسيحي قوي الى القصر الجمهوري، وقبولها باجراء انتخابات كيفما اتفق بغض النظر عن هوية هذا الرئيس، وهو ما ترجمه عمليا الكاردينال بالقول في جنيف لسعد الحريري بانهما يتحدثان «لغة مشتركة» في هذا الاستحقاق.
فما ذنب حزب الله؟ واين مسؤوليته في التعطيل؟ ولماذا لا يوجه الراعي الاسئلة الى «زعيم المستقبل» عن سبب تراجعه عن وعوده الرئاسية للجنرال ميشال عون؟ وعن سبب تورطه في «لعبة الالغاء» الجديدة عبر تبني ترشيح رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع لاجهاض فرص عون الرئاسية؟ اي بمعنى آخر ضرب الاقوياء على الساحة المسيحية؟ ام ان المطلوب من الحزب لكي يحظى «بصك البراءة» من تهمة «المثالثة» ان يتخلى عن ترشيح عون ويقبل بتسوية أخرى؟. طبعا لن يحصل الكاردينال الراعي ومعه الحريري الا على اجابة واحدة في هذا السياق، «الحل والربط» في الرابية.
في المقابل، فان الحريري من خلال «مد اليد» الى حزب الله لبدء رحلة بحث عن حلول للملفات الخلافية من «بوابة» ازمة الشغور الرئاسي، يعرف جيدا انه «دق الباب» الخاطىء، لأن الحزب لن يقبل بأي نوع من الالتفاف على الجنرال ميشال عون، فحسم هذا الملف يبدأ اولا بتفعيل الحوار مع التيار الوطني الحر باعتباره «أم الصبي»، واذا كانت مناورة الحريري الرئاسية من خلال «اللعب» على اكثر من «حبل» قد اوصلت البلاد الى المأزق الراهن فعليه ان يجد الطريقة المثلى لانزال «الحمار عن الماذنة» وليس تحميل الاخرين مسؤولية ما اقترفت يداه.
اما عن اسباب التشكيك في جدية مبادرة الحريري، فتقول تلك الاوساط، انها ليست المرة الاولى التي يطلق فيها الحريري وبعض قيادات تياره ومنهم الرئيس فؤاد السنيورة، ما يمكن ادراجه في خانة المبادرة السياسية، وانتهت كلها قبل ان تبدأ، لانها لم تكن جادة ومجرد «فقاعات اعلامية» تماشيا مع تطورات سياسية او امنية في البلاد، وهكذا فان «مبادرة» الحريري الاخيرة جاءت في خضم المواجهات في الشمال بين الجيش والمجموعات التكفيرية، وهذا ما يعزز «الريبة» حول خلفياتها الحقيقية، فهي تبدو مرة جديدة جزءا من «الانتهازية» المعتادة لتيار المستقبل الذي اراد ان يقدم نفسه انه تيار الاعتدال السني الذي وفر للجيش الغطاء ليقدم على ضرب الارهابيين وهو يريد ان «ينفض يديه» من اتهامات «خصومه» بدعم الارهاب، واراد القول انه خرج من هذا «الحصار» وبات قادرا على مواجهة الطرف الآخر دون هذه «الاوزان الثقيلة» التي كانت تثقل كاهله.
طبعا حسابات الحريري ليست مطابقة مع الوقائع على الارض، فالطرف الاخر يدرك ان ثمة ارباكاً كبيراً يظلل تحركات تيار المستقبل، فحتى هذا الشعور بالتحرر من تهم دعم «الارهاب» ليس صحيحا ولم يتبلور بالشكل المطلوب، فما حصل شمالا تجاوز مسألة قبول تيار المستقبل لخطوات الجيش من عدمه، فلهذه المواجهة سقوف عالية جدا تتجاوز سقف «التيار الازرق»، والموقف «الدفاعي» لوزير العدل اشرف ريفي والتخبط الواضح في تصريحاته هو الاكثر تعبيرا عن وجود أزمة حقيقية وجادة في مقاربة الامور لانقاذ ما يمكن انقاذه بعد ان خرجت الامور عن السيطرة. فثمة شعور بان «المركب يغرق» بمن فيه من «مرتزقة» جرت رعايتهم لاستخدامهم في وقت «الحشرة» واذا بهم يسقطون الواحد تلو الآخر، من شادي المولوي الى اسامة منصور، والداعي اسلام الشهال، والشيخ بلال دقماق، وقبلهم قادة المحاور، وتجري اليوم محاولات حثيثة لاستنقاذ النائبين خالد الضاهر ومعين المرعبي. انها مرحلة تخبط كبرى لا تصلح لبدء حوار جاد، وعندما يجري وزير العدل مقارنة بين مخازن الاسلحة في طرابلس والمخازن في الضاحية الجنوبية لبيروت، فهذا يشير الى «هذيان» ناتج عن «حمى» خطيرة اصابت «جسد المستقبل» وقادته الذين يدركون جيدا ان هذا الكلام غير قابل للصرف.
وبراي تلك الاوساط، فان اي مقاربة جدية للحوار لا تبدأ اصلا «بجس نبض» اعلامي حمال للاوجه، وانما بفتح «قنوات خلفية» للحوار تكون بعيدة عن الاعلام، وهي تجربة سبق وخاضها بنجاح الرئيس الشهيد رفيق الحريري مع الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، والحزب لم يقفل ابوابه يوما امام اي جهة تريد فعلا ان تصل الى حلول جادة سواء كانت تلك الحوارات علنية او بعيدة عن الاضواء، لكن هل يملك تيار المستقبل «ضوءا اخضر»سعوديا للانفتاح على حزب الله في ذروة التأزيم والاحتدام واشتعال المواجهات من لبنان الى اليمن مرورا بسوريا والعراق؟ هذا امر مشكوك فيه لان المقدمات الاقليمية لحوار ناجح لم تنضج بعد، والساحة اللبنانية ليست معزولة عن محيطها بل اصبحت في «قلب الصراع»، وثمة شكوك كبيرة في امكانية ابتكار حلول للخلافات الجذرية بين طرفي النزاع.
وفي هذا السياق، تشير تلك الاوساط الى ان «التيار الازرق» يدرك ايضا ان اي حوار جاد مع حزب الله سيكون أكثر صعوبة من اي يوم مضى بعد ان ثبتت صحة وجهة نظره في الاحداث الداخلية والاقليمية، فبعد «تلزيم» الملف الرئاسي للجنرال ميشال عون، يبقى ملفان اساسيان للنقاش الاول يتعلق بالارهاب، والثاني قتال حزب الله في سوريا. في الملف الاول سقطت محاولة تيار المستقبل لابتزاز الحزب عبر تخييره بين سعد الحريري أو «ابو بكر البغدادي» او «ابو محمد الجولاني»، فهذا الملف اصبح عبئا على «التيار الازرق» الذي بات هو امام خيار من اثنين اما يكون مع معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» او المجموعات «التكفيرية». اما ملف «تدخل» حزب الله في سوريا فلن يكون على جدول اعمال اي حوار، والحزب لن يعود من هناك طالما يرى مصلحة في ذلك، والترجمة العملية لهذا الكلام تعني انه مستمر في قتال تلك المجموعات الى حين استعادة الجيش السوري كامل جهوزيته التي تمنحه القدرة على السيطرة على كامل اراضيه، وهذا لا يعني مطلقا تخلي الحزب لاحقا عن حماية الحدود اللبنانية طالما ان الجيش اللبناني يحتاج الى المساعدة.
وامام هذه الوقائع، فان اي حوار جاد يطمح اليه الرئيس الحريري يبدأ اولا «بالتواضع» ومقاربة الامور بواقعية، وهذا يعني انه سيكون مضطرا لتقديم تنازلات للطرف الآخر على طريقة «ربط النزاع» الحكومي، فثمة ثوابت وقناعات ترسخت لدى حزب الله ودفع مقابلها الكثير من الدماء ومن الصعب جدا ان يتخلى عنها. انتظار الكاردينال الراعي والحريري لن يطول، ساعات قليلة ويطل السيد نصرالله ليحدد معالم المرحلة المقبلة.