Site icon IMLebanon

ما هي خيارات الدولة المالية في 2019؟

 

إذا كان مصرف لبنان لا يزال يتمتّع بهامش تحرّك لدعم مالية الدولة إن مباشرة من خلال التسييل الكمّي أو غير مباشرة من خلال المصارف، إلا أن وضع المالية العامّة الحرج، يطرح علامات إستفهام عن قدرة الدوّلة على مواجهة إستحقاقاتها المالية، خصوصًا سلسلة الرتب والرواتب.

 

ليس جديداً القول أن الدوّلة اللبنانية تعيش فوق قدراتها المالية، فالعجزّ المُسجّل سنويًا والذي بلغ تراكميًا 45.7 مليار دولار أميركي منذ العام 2007 وحتى نيسان 2018، يُظهر المُشكلة الهيكلية في الإقتصاد اللبناني الذي لم يعد نموّه يُغطّي مصاريف الدوّلة المُتزايدة. وتُشير أرقام وزارة المال إلى أن حجم الإنفاق التراكمي منذ العام 2007 وحتى نيسان 2018 بلغ 162 مليار دولار أميركي موزّعة على الشكل التالي: خدمة الدين العام (53)، الأجور والتعويضات والتقاعد (51 مليار د.أ)، دعم مؤسسة كهرباء لبنان (19)، النفقات التشغيلية (19)، ونفقات الخزينة والنفقات الأخرى (14)، النفقات الإستثمارية (7). وهذا يعني أن حجم النفقات الإستثمارية لا يزيد على 4% من إجمالي الإنفاق مقابل 96% إنفاق جارٍ (أي بدون أي فائدة مالية).

 

مقارنة هذا الإنفاق التراكمي مع إيرادات الدولة في الفترة نفسها (115.6 مليار دولار أميركي)، تُغطي العجز التراكمي البالغ 46 مليار دولار أميركي. والصدمة تأتي من معرفة أن 44 مليار دولار أميركي من هذا العجز تحوّلت إلى دين عام! نعم 44 مليار دولار زيادة الدين العام منذ العام 2007 (أي على فترة 12 عامًا بمعدّل 3.7 مليار د.أ سنويًا).

 

كيف يُمكن لدولة أن تستمر على هذا المنوال وناتجها المحلّي السنوي لا يتخطّى الـ 53 مليار دولار أميركي مع نسبة نمو تتراوح بين 1 و1.5%؟ الجواب بديهي، نحن ذاهبون إلى كارثة يتعلّق توقيتها بقدرة مصرف لبنان المالية وصلابة القطاع المصرفي.

 

بالطبع النظرية الإقتصادية تفصل السياسة المالية للحكومة عن السياسة النقدية لمصرف لبنان. وأموال هذا الأخير على الرغم من كونها مال عام، إلا أنها مفصولة كليًا عن أموال الخزينة العامّة، وتمنع النظرية الإقتصادية والأعراف قيام المصرف المركزي بدعم الدوّلة ماليًا. هذه الأعراف تمّ كسرها من قبل الإحتياطي الفدرالي الأميركي الذي عمد إلى شراء سندات خزينة أميركية بكميات هائلة (أكثر من 80 مليار د.أ شهريًا) لدعم الحكومة الأميركية إبّان الأزمة المالية العالمية.

 

إذًا نستنتج مما سبق أن مصير المالية العامّة في لبنان يعتمد على مصرف لبنان وعلى القطاع المصرفي. وفي غياب دعم هذين الطرفين، فإننا مُتجهون إلى الإفلاس الذي يُعرّف بفشل الدولة في تسديد إستحقاقاتها المالية. وإذا كان يجوز الاعتقاد أن مصرف لبنان قادر بما يمتلك من أصول مالية وبفضل الهندسات المالية التي يقوم بها رياض سلامة، من إنقاذ المالية العامة إلا انه من غير المنطقي الاعتقاد بإستدامة هذا الحلّ والذي يُمكن تصنيفه في خانة العمليات الجراحية.

 

إذا يظهر مما سبق أن الإستمرار في سياسة الإنفاق العام المُتبعة اليوم أمر مُستحيل لأن ذلك يؤدّي إلى الإفلاس. وبالتالي يتوجّب على الدوّلة إعادة التوازن المالي للمالية العامّة من خلال رفع الإيرادات وخفض الإنفاق. هذا الأمر يتطلّب تشكيل حكومة في أسرع وقت مُمكن على أن يتضمنّ بيانها الوزاري إعادة التوازن المالي للدولة اللبنانية.

 

العمل على زيادة الإيرادات يفرض تحفيز النمو الإقتصادي وليس فرض ضرائب جديدة، لأن فرض ضرائب جديدة ستكون له تداعيات سلبية على النمو الإقتصادي الذي هو أصلًا يُقارب مستويات الركود. وتحفيز النمو لا يُمكن أن يتمّ إلا من خلال تحفيز الإستثمارات لأن الإستثمارات هي وقود الإقتصاد. من هذا المُنطلق، نرى أن القيام بتفعيل مشاريع سيدر 1 هو أمر أكثر من أساسي في ظل عجز الدولة عن القيام بإستثمارات من أموال الخزينة العامة على أن تواكب هذه الإستثمارات بإصلاحات في القوانين لتشجيع مناخ العمل ودفع القطاع الخاص إلى الإستثمار.

 

العمل على خفض الإنفاق العام يمرّ إلزاميًا بوقف التوظيف العشوائي كليًا في الدوّلة اللبنانية وإعتماد سياسة إعادة توزيع الموظفين في الدولة حيث يتمّ على الأمد القصير سدّ حاجات القطاع العام من خلال الفائض في بعض المؤسسات والوزارات. أيضًا يتوجّب تنفيذ مشروع الحكومة الإلكترونية التي ستلعب دورًا محوريًا في تخفيض عدد الموظفين في القطاع العام. ولا يُمكن تناسي الفساد في مختلف القطاعات وعلى كل المُستويات الذي يحرم الخزينة من مدخول مباشر يوازي قيمة عجزها سنويًا.

 

لكن هل تستطيع الحكومة القيام بهذا الأمر؟ الاعتقاد السائد ان الحكومة ستعمد إلى تطبيق الشق الإستثماري من مؤتمر سيدر 1، إلا أن الشق المُتعلّق بوقف التوظيف في القطاع العام سيكون من شبه المُستحيل تنفيذه في ظل الثقافة المُنتشرة لدى الشعب اللبناني والذي يُصوّت حصريًا للرجل السياسي الذي يخدمه من خلال التوظيف والمُعاملات مع الدولة. هذا الأمر ستكون له تداعيات سلبية على المالية العامّة في العام 2019 من ناحية أن إستثمارات مشاريع سيدر 1 لن تُعطي مفعولها قبل عامين من بدئها وبالتالي، فإن الدوّلة ستتجه إلى التضحية بقسم من الإنفاق العام وعلى رأسه سلسلة الرتب والرواتب التي حتى ولو إمتنع مجلس النواب عن إصدار قانون لتعديلها أو إلغائها (نظرًا للغضب الشعبي) إلا أن الحكومة ستعجز عن تمويلها وستكون هذه السلسلة في حكم الميتة.

لماذا بالتحديد سلسلة الرتب والرواتب؟ الجواب آت من مبدأ أن الكتلة النقدية الناتجة عن زيادة الأجور والتي إستفاد منها أكثر من 250 ألف موظف في القطاع العام، ستؤدّي إلى تضخمّ بحكم أن تمويلها سيتم عبر الإستدانة. أيضًا إن إرتفاع القدرة الشرائية لدى هذه الشريحة أدّى إلى إرتفاع الطلب على العقارات المُموّلة بقسم كبير من مصرف لبنان وهذا يفرض أيضًا كتلة نقدية إضافية ستزيد من التضخّم مع توقعات بإرتفاع أسعار النفط العالمية نتيجة العقوبات على إيران.

 

إن تفادي المسّ بالسلسلة يمرّ عبر مكافحة الفساد ووقف التوظيف العشوائي، فحبذا لو أن السلطة السياسية تعمد إلى تشكيل الحكومة في أسرع وقت، للبدء في تنفيذ المشاريع الإستثمارية المنصوص عليها في مؤتمر سيدر 1، ووقف التوظيف في القطاع العام (أقلّه لخمس سنوات) والبدء في محاربة الفساد.