الاطلالة التلفزيونية الطويلة للامين العام لـ”حزب الله “السيد حسن نصرالله انطوت على قدر كبير من الدلالات والرسائل، إن في توقيت اطلاقها او في مضامينها، فهي وفق دوائر عكفت على سبر اغوارها رسالة كاملة متكاملة يبعث بها “قائد اقليمي” يرى نفسه شريكاً مباشراً في لعبة الكبار في ست ساحات مترابطة هي لبنان وسوريا وفلسطين والعراق والبحرين واليمن مع بداية سنة 2015.
لم تأتِ الرسالة الفضفاضة لنصرالله إلا بعد انطواء صفحة مرحلة صعبة على الحزب لاتخفي مصادر على تماس مع دوائر القرار فيه أنه تعرّض ابانها لواحدة من اشرس الحملات الداخلية والاقليمية والخارجية عليه، خصوصا بعدما اتخذ قرارا وصف بالجنوني تجسّد بارسال نخبة مقاتليه الى الميدان السوري الملتهب، وان صفحة مرحلة جديدة قد بدأت يستشعر الحزب معها انه راكم مكاسب وفرت لقائده فرصة مخاطبة الخصوم بكلام طويل نسبيا لكنه يكاد ينطوي على جوهر واحد هو “ان اللعبة اوشكت على الانتهاء يا شباب، فتعالوا نتفاهم على حلول وتسويات” تحفر خطوط مرحلة مختلفة.
وتأسيساً على هذا الواقع كانت رسالة نصرالله الاخيرة متخطية حدود النطاق المحلي الى نطاقات وفضاءات اوسع مدى اختار ان يكون مبتدأها التوجه نحو الاسرائيلي مباشرة مبلغا اياه أربع مسائل اساسية:
– انه جاهز لأي تحول أو تغيير في قواعد ما يريده هذا الاسرائيلي.
– ان على هذا الاسرائيلي الكف عن رهانات عقدها طوال الاعوام الثلاثة الماضية وجوهرها ان انخراط الحزب في الميدان السوري قد جعله ينزلق في حرب استنزاف لن تضع اوزارها إلا بعد ان تنهك كل الذين ادخلوا اصابعهم في نارها. ودليل الحزب المضاد كما ورد على لسان سيده ان الحزب رفع درجة جهوزيته وزاد رصيد ترسانته أسلحة جديدة اكثر تطوراً كاد نصرالله يفصح عنها إنها كاسرة للتوازن عندما قال كل ما يخطر على البال.
– ان الحزب يعتبر أن الغارات الاسرائيلية المتكررة على سوريا منذ اشتعال فتيل الاحداث فيها تستهدفه وتطاول خطوط امداده، وبالتالي تشكل تحديا له وهو يستعد للرد عليها في اطار الحساب المفتوح مع الكيان العبري.
– ان تأكيد نبأ الخرق الاسرائيلي للجسم التنظيمي والعسكري للحزب عبر تجنيد عميل من صفوف الكوادر فوق الوسطى في الحزب الحديدي، يأتي في سياق أمرين: الاول ان الجهاز الامني للحزب واع لمساعي اعدائه المزمنة ومدرك لحجم الحرب الاستخباراتية التي تدور رحاها منذ زمن بينه وبينهم، وهم وان حققوا نجاحا على هذا المستوى وللمرة الاولى ربما، فان الكشف الصريح عن الكادر المخترق يعني أن الحزب يقظ.
الثاني ان الحزب في طور استيعاب هذه الضربة وامتصاص تداعياتها ومفاعيلها على كل المستويات.
وعلى المستوى نفسه كانت لدى السيد نصرالله جرأة الحديث عن عمق “التصدع” الذي أصاب محور المقاومة بعدما سارعت حركة “حماس” الى الخروج منه بمغادرتها مقرها الاساسي في دمشق بعد وقت قصير على اندلاع الاحداث في سوريا، ومن ثم انحيازها المكشوف الى جانب معارضي النظام الذي أواها وحماها طوال ثلاثة عقود. وإذ اقر نصرالله بحجم الهوة بين هذه الحركة الاسلامية وبين دمشق، اطلق ما يشبه التعهد بانه سيعمل على اعادة الامور سيرتها الاولى ان من خلال العمل لازالة التوتر بين الشام والحركة ذات الاصول “الاخوانية” او في اضعف الايمان اعادة بعث الروح في محور الممانعة والمقاومة.
وهكذا اظهر نصرالله لمن يهمه الامر انه خلافاً لكل التأويلات والقراءات لم يضيّع البوصلة وان الحزب ما زال في الرحم الاساس التي ولد فيها قبل اكثر من ثلاثة عقود وهو رحم مواجهة اسرائيل، ودحض كل ما قيل عن أنه بفعل مغامرته بالدخول في الميدان السوري صار قاصرا عن التلويح بمشعل المقاومة ضد اسرائيل والذي شكل رافعته الى صدارة الواجهة والتأثير وسلط عليه الاضواء ساطعة.
وفي الشق الداخلي، ثمة من يستشف من خلال كلام نصرالله انه ما كان يمكن ان يتحدث بهذه الثقة العالية بالنفس لو لم يكن مقيما على استنتاج فحواه انه طوى صفحة ” الاضطراب وانعدام الوزن ” التي عاشها الحزب و الداخل اللبناني عموما طوال العامين اللذين انقضيا على معركة تحرير القصير في الداخل السوري، والتي كانت فاتحة تدخل مباشر جلي من الحزب الى جانب النظام السوري.
ولم يعد خافيا ان الحزب يعتبر جلوسه اخيرا و”تيار المستقبل” الى طاولة واحدة في مستهل رحلة حوار يتوقع لها أن تطول هو بشكل او بآخر بداية طي لعاصفة حملات اعلامية وسياسية شنت عليه من خصومه حمل لواءها “تيار المستقبل” نفسه.
ولم يعد جديدا القول ايضا ان الحزب ينطلق من هذا الحوار الذي عقدت امس جلسته الثالثة ليبني المنظومة السياسية الآتية:
– ان الحوار بدأ ينتج في خاتمة المطاف ثماراً معينة، لذا لم يكن عابرا ان يعرب السيد نصرالله عن تفاؤله الجدي بنتائج هذا الحوار “ما دامت هناك ارادة جدية لدى الطرفين”.
– وليس غريبا ان الحزب بدأ يشعر بأن الطرف الآخر لم يعد في وارد تسجيل انتصارات عليه بقدر ما يهمه حماية اتفاق الطائف وتحصين الانجازات التي وفرها هذا الاتفاق الموضوع منذ اكثر من 3 عقود لهذا الفريق، علما ان هناك في مناخ الحزب من يعتبر ان الحزب دفع سلفا عندما ارتضى اعادة السلطة ورئاسة الحكومة الى حضن “تيار المستقبل” بعدما اخذت منه عنوة مدى اكثر من عامين وعجزت كل جهوده عن اعادتها اليه.
وعموما فان كلام نصرالله يشفّ عن امر اساسي هو ان الحزب يبدأ العام الجديد وهو يستشعر ان ثمة لحظة انتصار لمحوره تطل برأسها من الساحات التي له فيها حضور بما فيها الساحة التي بدا فيها ضعيفا وهي الساحة السورية، لا سيما ان نصرالله أعلن اطمئنانه الى ان لا حل ولا تسوية في هذه الحال الا باستمرار ولاية الاسد.