ما يخشاه بعض الخبراء هو أن يلتفّ المسؤولون اللبنانيون مرّة أخرى على التحذيرات الدولية ويعتمدوا أسلوب المخادعة والتخدير، بهدف تأجيل الانهيار مرّة أخرى… على زغل. ففي ظل هذه السياسة، سيتعاظم حجم الإنهيار المنتظر منذ سنوات. فالسقوط اليوم أكثر إيلاماً ممّا كان قبل عام، وباتت تداعياتُه كارثية. وبعد عام، سيكون السقوطُ أكثرَ إيلاماً ممّا هو اليوم… وستكون تداعياتُه مصيرية بالنسبة إلى الدولة والكيان اللبناني.
يبدو المسؤولون وكأنهم يخبّئون شيئاً ما عن الناس، ويفرجون عنه تدريجاً لتخفيف وقع الصدمة. ولم تتضح بعد ملامح التدابير المالية والإدارية والاقتصادية التي سيتم اعتمادُها «قسراً» استجابةً لمتطلبات مؤتمر «سيدر». ويتأخّر إصدار الموازنة بسبب الإرباك. وكل ما يرشح عنها هو أنها ستتضمّن «إجراءاتٍ مؤلمة». وما يرشح من هذه التدابير يمكن وضعُه في 3 خانات:
1 – تدابير يمكن أن تكون مناسبة، ولكن لا أحد يكفل تنفيذها، كما هو الحال بالنسبة إلى خطة الكهرباء.
2 – تدابير غير كافية أساساً، كالاقتطاع المتوقع من الرواتب والتقديمات والتعويضات في القطاع العام، أو المسرحية الاستعراضية المتوقعة في ما يخصّ رواتب النواب والوزراء.
3 – تدابير في غير محلّها كفرض الضرائب والرسوم الجديدة.
إذاً، الخطوات اللازمة لتحقيق الإصلاح الإداري والمالي والاقتصادي الحقيقي غير مطروحة. فلا شفافية، ولا أُطلٍقَت يد القضاء وأجهزة الرقابة، ولا إعتُمِد الحزم لاستيفاء المتوجبات للدولة من ضرائب ورسوم ورفع التعديات على الأملاك والمرافق العامة، ووقف الهدر والسمسرات، وإخضاع المؤسسات لآليات العمل الدستورية والقانونية.
وطبيعي أن تتجاهل الطبقة السياسية هذه الخطوات الجدّية لأنها تمسّ بمصالح أركان السلطة أنفسهم، كالتهرب الضريبي والتعديات والصفقات بالتراضي.
ويؤجّل الموفد الرئاسي الفرنسي بيار دوكان زيارته للبنان، انتظاراً لما ستنتهي إليه الجوجلة الإصلاحية. والجميع في سباق مع الوقت. ولكن، على رغم من التشدّد الذي يبديه الفرنسيون رعاة مؤتمر «سيدر»، ومعهم الجهات الدولية المانحة، فإنهم أخيراً قد يفرجون عن جانب من المساعدات الموعودة في شكل قروض لبعض القطاعات، ما قد يجنّب لبنان انهياراً حتمياً آتياً.
وفي عبارة أخرى، إنّ تحريك المساعدات سيؤجّل وقوع الكارثة، ولكن إلى حين، كما تأجّل وقوعها على مدى ربع القرن الفائت بالوعود والتسويف ومخادعة الجهات المانحة. وفي الموازاة، يتحرَّك المسؤولون لتجنّب استحقاق العقوبات الأميركية على «حزب الله»، واحتمال شمولِها حلفاءه أيضاً أو الدولة اللبنانية ككل. ويقول الوفد اللبناني الذي فاوض الإدارة الأميركية والبنك الدولي إن لا توسيع للعقوبات وبأنّ الدولة اللبنانية ذاتها ليست مستهدَفة.
في المبدأ، لم تُظهِر واشنطن في أيِّ يوم رغبتها في اتخاذ أيّ خطوة تزعزع الاستقرار اللبناني. وعلى العكس، إنّ هذا الاستقرار، سياسياً ومالياً وأمنياً، مرهونٌ منذ سنوات عديدة بمدى الدعم الأميركي.
ولكن، بعد النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات النيابية الأخيرة وتشكيل حكومة يحظى فيها «حزب الله» بمزيد من النفوذ، هزّ الأميركيون العصا للبنان. وأقاموا سدّاً لمواجهة انزلاق «الحزب» بلبنان الرسمي نحو إيران، وانزلاق الرئيس ميشال عون نحو روسيا.
ويعتقد المتابعون أنّ التحذيرات الأميركية نجحت. والدليل هو أنّ الضغط الإيراني الذي مورس قبل أشهر لخرق الساحة اللبنانية قد تراجع، ولو ظرفياً. وأما الروس الذين حصلوا، خلال زيارة الرئيس ميشال عون لموسكو، على وعود بتعزيز استثماراتهم في المرحلة المقبلة، فإنهم لم ينجحوا في إبرام التعاون العسكري الذي كانوا يطمحون إليه. ومردُّ ذلك هو الضغط الأميركي على لبنان في اتجاهين: الإغراء والتحذير.
فلبنان يحتاج بالتأكيد إلى الدعم الذي يقدِّمه الأميركيون إليه، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. كما أنّ تغطية استقراره المالي تعتمد على واشنطن في شكل أساسي، ولا يمكن أيُّ دولة أخرى أن تعوِّضه فقدان هذه التغطية. وإذا وضع اللبنانيون أنفسهم في خانة التحدّي مع واشنطن، فلا بدّ من أنّ العواقب ستكون قاسية ولا يمكن تَحمُّلها.
والدليل إلى ذلك هو الوفود اللبنانية المتلاحقة إلى واشنطن، على مدى الأعوام الأخيرة، لـ»القوطبة» على أيِّ موقف أميركي مفاجئ. وفي هذا السياق، جاءت المهمّة الطارئة التي قام بها الوفد اللبناني أخيراً… والتي انتهت، وفق تأكيداته، بالتطمين إلى أن «لا شيءَ يشغل البال حتى الساعة».
والمقصود بالتطمين هو أنّ «الشائعات» التي ظهرت أخيراً، في واشنطن وبيروت، والتي تحدثت عن احتمال توجيه واشنطن ضربة سياسية – مالية للبنان، أو لبعض أركان السلطة فيه، بسبب تحالفاتهم مع «حزب الله»، ليست صحيحة.
لكنّ المتابعين يعتقدون أنّ من الخطأ أن يبالغ اللبنانيون في الاتكال على كلام التطمين. فمن المحتمل أن يرتدي طابعاً ديبلوماسياً، كما كان طوال سنوات مضت، إذ كانت واشنطن ترسل إشارات التطمين إلى لبنان فيما العقوبات تتصاعد تدريجاً.
وفي المقابل، يطلب الجانب اللبناني من الأميركيين مزيداً من التفهّم لخصوصيات الوضع والتركيبة في لبنان. ويراهن عدد من القوى اللبنانية على متغيّرات إقليمية تنعكس داخلياً، وتسمح لـ»الحزب» بفك ارتباطه بساحات القتال الإقليمية، ما يريح الوضع الداخلي.
ووفق بعض المتابعين، قد تكتفي واشنطن في هذه المرحلة بمقدار من التحذيرات ولا تذهب بعيداً في معاقبة لبنان الرسمي. لكنها بالتأكيد تنتظر من أركان السطة أن يفكّوا ارتباطهم السياسي بـ»حزب الله». والرسائل التي نقلها الموفدون الأميركيون إلى لبنان كانت كلها تحمل هذا المغزى. وهي تنتظر منهم خطوات تثبت رغبتهم في التجاوب.
وقبل أيام، ردّ نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون مكافحة الإرهاب مارشال بيلنغسلي على سؤال يتعلق باحتمال أن تفرض واشنطن عقوبات على مسؤولين لبنانيين، بالقول: كان وزير الخارجية مايك بومبيو واضحاً عندما أكد للبنانيين أنّ واشنطن ترفض سيطرة «حزب الله» على الاقتصاد اللبناني. هذا يعني أنّ واشنطن ليست في وضعية المهادنة في ما يتعلق بهذا الملف. ولكن، على الأرجح، سينتظر الأميركيون كثيراً إذا كانوا يريدون من القوى اللبنانية أن تبتعد عن «حزب الله». وفي الموازاة، سينتظر الفرنسيون والجهات المانحة كثيراً إذا كانوا سينتظرون الإصلاح الحقيقي والشفافية. وفي المعنى الحقيقي، لبنان ليس مقبلاً على تغيّرات حقيقية، لا في ملف الإصلاح والشفافية ولا في ملف «حزب الله».
إذاً، سيصمد الاستقرار اللبناني ما دامت التغطية الدولية متوافرة له… إصطناعياً. وتبقى الصدمة واردة في أيّ لحظة. وكلما تأخَّر وقوعُها ستكون أكبر.