سيَسيل، ولا ريب، كمّ كبير من الحبر حول القدرة على تسويق مبادرة ترئيس شخصية جلية في ارتباطها وولائها السياسي، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، مثل زعيم “تيار المردة” النائب سليمان فرنجية والدفع بها لتملأ فراغاً رئاسياً مستمراً منذ أكثر من عام ونصف عام.
وبالطبع ستفتح الشهية على الكثير من التحليل والتمحيص حول التداعيات المحتملة لمثل هذه المبادرة وما يمكن ان تتركه من آثار على ضفتي الاصطفاف السياسي في الساحة اللبنانية على نحو يدفع البعض الى اعتبارها مجرد تجربة تحاكي في اعماقها وابعادها الخفية تجربة “مخايل ضاهر او الفوضى”، فتكون الآن إما فرنجية رئيساً او لا رئيس الى أجل غير مسمى، مما يعني فتح الابواب على غير مرحلة قد تكون مثقلة بالمفآجات.
ولكن السؤال الاساسي الذي ذهب البعض في رحلة تقص عن اغواره هو: ما هي الاسباب الجوهرية التي تدفع بزعيم “تيار المستقبل” ومن “وراءه ومن سار في ركابه، الى تنكّب هذا العرض الذي لا شك في جديته ويفتح الابواب أمام هذا الخيار الشيق والشائك في كونه يسلم الرئاسة الاولى، اذا ما اخذ طريقه نحو التحقق، الى فريق 8 آذار وتحديداً الى شخصية لا تبذل اي جهد لاخفاء علاقتها التاريخية الوثقى بالرئيس السوري بشار الاسد، مما يعني ضمنا اعادة عقارب الساعة الى اكثر من عشرة اعوام خلت، ويضع نقطة النهاية لمرحلة سياسية كان عنوانها العريض اقصاء كل من هو محسوب انه من رموز العلاقة مع دمشق واجتثاث كل ما له صلة بمرحلة الوصاية؟
واستطراداً ما الذي دفع بزعيم محور 14 آذار الى اطلاق مبادرة تحلل المحرَّم وتكرس في طياتها نصراً لفريق ومكسباً لمحور؟.
حيال هذه التساؤلات تتعدد الاجابات والتفسيرات ويحلو للبعض ان ينحو بالأمور منحى تكتيكيا على غرار ان الحريري ما روّج لهذا العرض لكي يمرره، بل لينتهي كما انتهى عرض مخايل ضاهر او الفوضى فيكون قد حقق ثلاثة اهداف بضربة واحدة:
الاول، انه اعطى الضوء الاخضر لانتخاب رئيس من فريق 8 آذار المصر بعناد على ان تكون الرئاسة الاولى من حصته بفعل موازين القوى، ولكن العائق اتى من لدن الفريق عينه كونه لم يتجاوب فضيّع الفرصة على نفسه وعلى مستقبل الوضع السياسي في البلاد فيسهل عندئذ تحميله مسؤولية التعطيل.
الثاني، انه اراد خلط الاوراق وتفكيك حلقات المحور الآخر، وبالتالي السعي لانهاء كتلة سياسية ظلت متراصة طوال نحو عقد من الزمن وظلت وازنة وفاعلة، خصوصاً ان للعرض تداعياته سواء سار ام حيل دون تنفيذه.
الثالث، انه (الحريري) يريد خلط الاوراق في المشهد السياسي ككل ويفتح الابواب امام تركيبة سياسية مختلفة تنهي ضمنيا الاصطفاف الحاصل منذ عام 2005 وحتى اليوم واحراج البعض وتحديداً “حزب الله”، وإخراج أمرة اللعبة داخل فريقه السياسي من يده.
وفي النطاق التكتي عينه، ثمة رؤية يعتمدها البعض عنوانها ان الحريري عندما اطلق مبادرته الخارجة عن كل مألوف الحسابات وشكلت صدمة سياسية، أراد ان يبدد كل ما تم ترويجه طوال الفترة الماضية عن تقاعده السياسي المبكر وعن قصوره عن الفعل وعجزه عن اطلاق مبادرات الحل والربط، لاسيما إن ابتعاده المستمر عن الساحة فتح باب الاجتهاد والتنافس في داخل بيته السياسي بسبب كثرة الطامحين الى الوراثة السياسية.
وهناك من يرى أن الحريري ربما أراد أيضاً ان يمهد الطريق للمرشح التوافقي الوسطي بعد ان ينتهي دور الكبار.
اما على المستوى الاستراتيجي فثمة من يقرأ العرض من منظار مختلف، اذ يرى انه لا يمكن الحريري ان يطلق مبادرة من هذا النوع وبهذا الحجم من التداعيات المحتملة من دون علم الرياض او من دون مشورة واشنطن، سواء كان العرض مجرد مناورة ام عرضاً جدياً، وهذا ان صح انما يطرح سؤالاً عن الدافع لترشيح الشخصية القريبة من الرئيس الاسد، واستطراداً من “حزب الله” وايران؟
هنا أيضاً تتعدد التفسيرات والآراء لدى أوساط 8 آذار عن رغبة اميركية مزمنة عنوانها العريض لملمة الوضع اللبناني الذي بات يمتلك في الآونة الأخيرة قابلية لمزيد من التحلل والتفكك ولمصلحة جهات بعينها وذلك من خلال ترئيس شخصية تطمئن طهران ودمشق وحلفاءهما من جهة، وتسمح من جهة ثانية بتكريس واقع يحول دون انزلاق الامور الى مناخات مجهولة او غير مضمونة العواقب والنتائج.
وفي الأوساط عينها رؤية فحواها ان التسوية المعروضة إن قيّض لها النجاح، انما هي ثمرة من ثمار مرحلة ما بعد الاتفاق النووي الايراني وتهيئة طبيعية لمرحلة الحل السياسي الذي بدأ الاعداد له في الآونة الأخيرة في الساحة السورية.
وسواء كان العرض لعبة من صنع الداخل اللبناني، وتحديداً “الثلاثي” الذي اعتاد ان يطلق المبادرات، ام كانت مبادرة مغطاة من الخارج، فالثابت ان العرض في ذاته بات علامة فارقة وتطوراً مفصلياً في المشهد السياسي اللبناني من الآن والى أجل غير مسمى.
أما الأثمان المطلوبة التي جعلت الحريري يدخل هذا المدخل، فهي وفق آراء عدة ابقاء الامور تنسج على المنوال المعروف عينه، فلا اصلاح جذرياً ينهي عصر الدويلات ضمن الدولة، ولا قانون انتخاب ولاخروج اطلاقاً من تحت سقف الطائف، خصوصاً انه سبق لقوى 14 آذار ان تعايشت نحو ثلاث سنوات مع رئيس محسوب تماماً على 8 آذار وسوريا وتمكنت مع ذلك من القبض على زمام الحكومة والمجلس النيابي وأخذت فرصتها في ادارة الاوضاع والقطع مع مرحلة والشروع في أخرى.