IMLebanon

ما هي الأبعاد السياسية لـ”تراجع” برّي عن دعوته إلى جلسة “تشريع الضرورة” ؟

لم يكن امرا بلا دلالات وأبعاد ان يستهل رئيس مجلس النواب نبيه بري اطلالته الاعلامية الاخيرة بنعي متجدد لاصطفافي 8 و14 اذار، فهذا النعي وإن بدا للبعض انه أتى من خارج سياق منطويات الهدف الاساسي من مؤتمره الصحافي المكرس اصلا لموضوع التراجع عن جلسة “تشريع الضرورة”.

لا شك في ان بري أقر ضمناً في هذه الاطلالة بخسارته معركة سياسية هو من بادر الى فتحها بقوة وزخم وإن كان قد اعطى اكثر من مبرر ومسوغ لتراجعه عن الدعوة الى جلسة “تشريع الضرورة” ورفعه الى مصاف المصلحة الوطنية العليا، لكنه كان وهو يتراجع يبلغ من يعنيهم الامر ان لهذا التراجع اثمانا سياسية ابرزها انه يتعين على المعنيين الا يحسبوه على فريق 8 اذار، وهو الفريق الذي انتسب اليه عمليا منذ ان دعا الى اللقاء الموسع في عين التينة في اوائل اذار2005 بعدما انطوت، على حد قوله ، صفحة التسمية اياها والتسمية المضادة (اي 14 اذار) ، وهو امر يعني استطرادا ان ما بعد هذا الكلام غير ما قبله ، وان على المعنيين ألا يلوموه إن هو اخذ مواقف وسطية او ربما على طرف نقيض من مواقف ستتخذها قوى 8 اذار.

انه اذاً احد الاثمان السياسية لخيبة الامل من التجاوب معه في موضوع اساسي بالنسبة اليه ويعز عليه كثيرا وهو موضوع فتح ابواب المجلس النيابي امام “تشريع الضرورة” ولو لمرة واحدة سنويا على غرار ما حصل في العام الماضي.

وثمة من يرى ان الثمن الاخر الذي لمّح اليه بري هو نعيه غير المباشر لامكان التوصل الى اقرار قانون جديد للانتخابات ينال موافقة الجميع ويمكن ان يكون اساسا لاجراء الانتخابات النيابية المضمونة ، وذلك من خلال الاعلان عن احالة مشاريع القوانين السبعة عشر الموجودة في ادراج المجلس على اللجان النيابية. وهذا يعني وفق العارفين العودة الى الدوران في الحلقات المفرغة والاجتماعات المتتالية العقيمة.

هذا الامر في نظر المتابعين هو جزء من عملية “مكابرة ” و”كباش سياسي” او”تصفية حساب بمفعول رجعي”، لكن الجلي ان القوى المسيحية التي قيض لها ان تخوض معركة مواجهة “تشريع الضرورة” خرجت من هذه المواجهة مع بري بشعور الرابح، او بمعنى ادق الواثق اكثر بنفسه وبقدرته على المضي قدما في ما بدأته، خصوصا ان سيد عين التينة هو من بادر الى التلويح بخيارات تصعيدية ما لم تتجاوب الكتل النيابية المسيحية مع دعوته.

وبالتأكيد ثمة في مناخات الرئيس بري من يضع الامر من الفه الى يائه في خانة “عدمية الاخرين وسلبيتهم وتعطيلهم للحلول وسد الابواب امام انتاج تسويات للقضايا العالقة ولاسيما منها الحيوية” ، ولكن الاكيد ان تجربة عامي الشغور الرئاسي كرست معادلات جديدة في الوسط السياسي عموما والوسط المسيحي خصوصا، من عناوينها العريضة:

– ان القوى المسيحية نجحت الى حد بعيد ، وربما للمرة الاولى في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، في ان تلملم شتاتها وتعيد تجميع صفوفها وتنطلق في هجوم مضاد لاستعادة ما تعتبر انها فقدته خلال سني الحضانة السورية وما تلاها.

– وانها بفضل الدعم اللامحدود من “حزب الله” لـ”التيار البرتقالي” باتت تمتلك ثقة اكبر بالنفس وبتلاشي الشعور باليتم والتهميش الى درجة ان هناك في الشارع المسيحي من بدأ يتحدث عن زوال تدريجي لمقولة سرت من اعوام وفحواها ان المسيحي فقد مشروعه السياسي وبات ملحقا بأحد المشروعين السني او الشيعي. وعليه ثمة شعور متنام لدى الوسط السياسي المسيحي بأن “تفاهم معراب” الذي كسر حال قطيعة وعداء بين مكونين مسيحيين اساسيين قد بدأ يعطي ثماره المرجوة ، بدليل ان تسمية زعيم “تيار المستقبل” الرئيس سعد الحريري النائب سليمان فرنجية مرشحاً لرئاسة الجمهورية ما كان يمكن ان يحدث لولا التطورات الدراماتيكية التي فرضها استعادة الشارع المسيحي لتماسكه.

ولم يكن بالامر القليل الاهمية المواجهات الشرسة التي خاضها وزراء مسيحيون داخل مجلس الوزراء في الشهرين الماضيين ، وخصوصا لجهة قضية جهاز امن الدولة ، مما اضطر الطرف الاخر الى بذل جهود كبرى لتبرير موقفه واقناع من يعنيهم الامر انه ليس تعدياً على حقوق طائفة بعينها.

وفي السياق عينه يندرج الكلام الذي راج خلال الايام القليلة الماضية عن مبادرة ما زالت مجهولة المصدر ويتيمة الاب لملء الشغور الرئاسي ، وعنوانها نصف ولاية رئاسية للعماد عون ضمن سلة حل متكامل. فبصرف النظر عن مآل هذا العرض وعن مدى جديته وعن دور مفترض لبعض العواصم الغربية في ابرازه، الا ان جزءا اساسيا من الطبقة السياسية هاله هذا العرض فبادر الى نعيه سلفا لاعتبارات عدة ابرزها : ان كل المحاولات المتكررة لقطع طريق قصر بعبدا امام عون لم تنجح تماما، بدليل ان الرجل مازال يُنظر اليه على انه مفتاح اية سلة حلول متكاملة ستطرح عاجلا ام آجلاً، اضافة الى ان هذا العرض الطالع الى الضوء فجأة لم يأت من عدم بل هو موحى به إما ليكون لاحقا وفي زمن الحلول الاقليمية امرا حاضرا ، وإما ليؤسس عليه وتتم مقاربته على اساس انه منطلق الحل.

وعليه ينتاب شريحة واسعة من النخبة السياسية المسيحية شعور فحواه ان هناك صعوبات كبرى صارت تنتصب امام الذين اعتادوا التصرف بالحصة المسيحية ، وان هؤلاء اضطروا اخيرا الى اعادة النظر في حساباتهم واستطرادا في خياراتهم ، وبدأوا يقتنعون بأن عليهم التفكير بمداخل اخرى للتعامل مع الوسط المسيحي.