ليست الأزمة التي مرّت بها كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك وأدّت إلى استقالة بطريركها غريغوريوس لحام مالية بالمطلق، بل هي ضرب للمقوّمات المشرقيّة التي عنيت بها هذه الكنيسة مع اساقفة تمّ التخلّي عنهم، لأنهم مثّلوا قيمًا راقية في هذه الكنيسة بالذات منذ المطران غريغوريوس (غريغوار) حدّاد إلى المطران إيلاريون كبوجي والآن البطريرك غريغوريوس لحّام.
إنّها بامتياز أزمة بنيويّة، وهي، تالياً، غير محصورة بكنيسة واحدة بل متشعّبة إلى كنائس عديدة بعناوين متنوّعة ومختلفة، تتوازى حيناً وتتماهى أحيانًا، ولا تتوارى برؤى إصلاحيّة جذريّة قادرة على جعل المسيح راسخاً أكثر فأكثر وثابتًا في هذا العالم الشديد التحوّل من عواصف الحرب في سوريا وعليها إلى عواصف تسويات تتمسّك بقيم الفلسفة التفكيكيّة وتعمد على تمزيق المشرق العربيّ إرباً إرباً، وحماية الحدود من إسرائيل إلى تركيّا.
تمثّل قضيّة البطريرك لحام جزءاً خطيراً وحلقة من حلقات هذا التمزّق الذي يضرب بمعوله أرض كنيسة قادها هذا الحبر إلى محطّات انبلج فيها الضياء مع بنائه لمؤسسات أهمّها مركز مخصّص لحوار الأديان والحضارات، وهذا لم تقم به أيّة كنيسة بهذه الصورة الواسعة، بمعنى أنّ البطريرك قاد كنيسته لتكون في الموقع المتقدّم على مستوى ابتكار المبادرات الخلاّقة، ودعا مجموعة من رجال فكر ومثقفين كباراً ليخوضوا غمارها وعقد مؤتمرات فاعلة ومنتجة ومؤثّرة في السلوكيات الدينيّة والإنسانيّة والسياسيّة، وقد استلهم البطريرك هذه الرؤية من السفير الراحل فؤاد الترك وهو أوّل من عمل على جعل لبنان مركزًا لحوار الحضارات والأديان، فهو رسالة للعالم كلّه.
ما هي الملابسات خلف استقالة البطريرك لحام في شباط الماضي؟ مصدر روحيّ في كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، قال بأنّ المشكلة بدأت ماليّة في محاولة لبيع مبنى مدرسة البطريركيّة في زقاق البلاط في بيروت، وأوقاف عقاريّة في عبرا، هذا الأمر استفزّ عدداً من شخصيّات سياسيّة ورجال اعمال في الطائفة، كما استفزّ مطارنة في السينودوس وعلى رأسهم جورج حداد، وكيرللس بسترس، وجوزيف عبسي، وجان جنبرت، معترضين على تفرّد البطريرك بالبيع من دون تعليل الأسباب، فحدثت أزمة بطريركية خطيرة تدخّلت فيها شخصيات وزاريّة ونيابيّة من الطائفة وعلى رأسها ميشال فرعون وأنطوان صحناويّ، وبدأت بالحراك على مختلف الأصعدة وكان الحراك القمّة في الفاتيكان حيث مطران نافذ ورجل أعمال مصرفيّ بهدف شرح أسباب المعارضة والضغط باتجاه تقديم البطريرك لحام استقالته من السدّة البطريركيّة تحت ستار بلوغه السنّ القانونيّة. قابل الثنائيّ بسترس- صحناوي الكاردينال ساندري، ولوحظ أن ساندري استجاب بسرعة قياسيّة، فتولى هو وجهازه الضغط على البطريرك وبلغ الضغط ذروته في شباط الماضي فاستجاب البطريرك وقدّم استقالته متمنيًّا بأن يتمّ قبولها خلال شهر تشرين الثاني المقبل. ويوم السبت الفائت فوجئ البطريرك بقبول استقالته بسرعة قصوى، رضخ البطريرك «براحة ضمير»، ولكنّه وفي الوقت عينه، اعتبر بأن ما هذا الأمر فيه مساس بكرامة البطاركة السبعة في أنطاكية وسائر المشرق، ومظهراً بأنّ كنيسة الملكيين الكاثوليك ليست تابعة لروما بل تعيش بشراكة كاملة مع كنيسة روما وما بين الشراكة والتبعية بون كبير.
في معرض دفاعه أبرز السيد البطريرك وبحسب المعلومات كلّ المستندات الخاصة سواء بمدرسة البطريركية في زقاق البلاط أو في أوقاف عبرا، وكشف بأنّ البطريرك انطلق من موافقة الفاتيكان وبخاصّة من البابا نفسه، سيّما أن التصرّف بالأوقاف يحتاج بالضرورة لموافقة من البابا، وهو وبحسب مصادر مقربة من البطريرك قد وافق ولم يبد اعتراضًا. وفي هذا الإطار تساءلت مصادر أخرى ما كانت حاجة البطريرك لبيع المدرسة وأوقاف عبرا، ولماذا لم يتهم بعقارات في دمشق؟ تردّ أوساط مقرّبة بأنّ الاعتراض بدأ منذ 1997 أي منذ تسلّم لحّام سدّة البطريركية خلفاً للمثلّث الرحمات البطريرك مكسيموس، فهو جاء من إحساس مشرقيّ تملّكه وهو ابن داريا القريبة من دمشق وقد عاش في فلسطين مطراناً للقدس، واهتمّ بمسألتين رآهما بالغتيّ الدقّة على المستوى المسكونيّ، وهو مسألة الوحدة بين الكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة، وقد كان يطمح للوحدة مع الروم الأرثوذكس، وبقيت هذه المسألة تخضّه في العمق على الرغم من أن المثلّث الرحمات البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم اعترض على طبيعة الوحدة ونوعيتها ودور أسقف روما في الرعاية. والمسألة التي تآلف وإياها بعمق كبير، مسألة الحوار المسيحيّ – الإسلاميّ، وقد وجّه رسائل إلى الملوك والرؤساء العرب ناقش فيها هذه المسألة والتي اعتبرها حيويّة، وحضّهم على ترسيخها بوجه إسرائيل، ويذكر أنّه خلال لقاء مسيحيّ في الولايات الأميركية المتحدة خرج احتجاجاً على حضور نائب يهوديّ اللقاء.
السؤال المطروح هل البطريرك لحام يعاقب بهذا القرار لأنه مشرقيّ ولكونه صاحب مواقف تتمثّل فيها الرجولة والوطنيّة ويتجلّى فيها الإحساس القوميّ، أو لأنّه فعلاً لم يحافظ على دور كنيسته وشخصيّته ما اعتبر احدهم مزاجية تتملّكها آحادية مفرطة وميل إلى القبض على السلطة معتبراً نفسه أنّه الكل في الكلّ ممّا جعل الانقسامات تتوسّع تدريجيًّا؟ وتطرح مصادر أخرى سؤالاً واضحاً هل ثمّة من يريد النيل منه لأنّه دافع بشراسة عن سوريا وعن الرئيس بشار الأسد ودوره، وكان قريباً من خطّ المقاومة، أو لأنّه بالفعل فرّط بهيبة رئاسته ولم يبرز خطّة واضحة للنهوض بكنيسته على المستويات كافّة؟ لماذا الآن وفي هذا الظرف بالذات تقبل استقالته؟
في بيان وتبيين، كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، كنيسة مشرقيّة من حيث بنيتها وشهادتها، تتحفّز دوماً من تلك الينابيع الممدودة من سوريا وفلسطين ولبنان إلى الأردن ومصر، كنيسة لها جذورها، وعلى الرغم من ذلك فهي كنيسة غير شريكة لروما بل هي جزء منها تابعة لها منذ أن ساهم الرهبان اليسوعيين في القرن الثامن عشر بالانشقاق داخل الجسد الأرثوذكسيّ سنة 1724 من صيدا إلى حلب وصبّت في زحلة ودمشق وأماكن وبلدان عربيّة. فكانت كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، وانطلقت منها رهبانيات ورممت أديرة ساهمت ببثّ النهضة العربيّة كدير يوحنا الصابغ في الخنشارة. تميّزت تلك الكنيسة عن بقية الكنائس الكاثوليكيّة الأنطاكية بدفاع بطاركتها وأحبارها المستميت عن فلسطين وأظهروا أنفسهم وغير مرّة بأنّهم مشرقيون وعروبيون.
وبالعودة إلى البطريرك لحّام، فإنّ مصادر أظهرت ما يلي: «لو كانت المسألة مالية وعقاريّة فلماذا لم يقوم المدّعون عليه إعلاميّاً بكشف ما يدور بالوثائق والأرقام؟ معركة إزاحة البطريرك لحام من موقعه، تميّزت جدّاً بخصوبتها وخصوصيتها، لدرجة أن وزيراً كاثوليكيّاً نافذاً معارضاً له اتصل بأحد المعنيين بهذا الملّف وطرح عليه السؤال التالي: «هل تأكدت من قبول استقالة البطريرك لحّام؟» فأجاب بالإيجاب فما كان منه سوى أن أغلق خطّ الهاتف تأكيدًا على نجاح السعي عند الكاردينال ساندري. ثمّة سعي واضح لضرب الجوهر القائم في توجّه الكنيسة والتأكيد على انبثاثها في قلب «الليتنة» الفاقعة بعيداً عن هويتها التي لطالما تفاخرت بها. وتقول بعض المصادر بأنّ البطريرك لحام امتعض كثيراً من بعض المسلكيات اللاتينيّة في بعض من ريف حمص وحماه وبخاصّة في وادي النصارى منطلقة من منهج الاقتناص Proselytisme لمسيحيين أرثوذكس ثبتوا في هذه المواقع طيلة العواصف الهوجاء وما برحوا عنها البتّة.
وفي الختام تخشى مصادر كبرى داخل الطائفة من وصول الطائفة إلى التمزّق بعد هذا الانقسام. إذ إن انقسامًا عموديًّا سائداً بين مطارنة هذه الكنيسة على خلفيات عديدة، وقد كانت مسألة البطريرك لحام إحدى هذه الخلفيّات. ماذا بعد قبول استقالته من سيكون البطريرك القادم؟ هذا سؤال سيكثر طرحه، السؤال الأخطر هل ستبقى كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك وفي ظل استفحال تلك الأحداث وتدحرجها كنيسة العرب كما شاءها الأب جان كوربون وهو كاهن مستشرق حتى الثمالة عاش في أحضانها وتبحر فيها وفي الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكية، أو أنّها وبفعل الاصطفاف السياسيّ القائم على خلفية الصراع في سوريا ستؤخذ إلى مكان آخر؟ هذا سؤال يجدر بكثيرين البحث بآفاقه لتكوين الإجابات الضروريّة، المهم بالنسبة لكثيرين أن تبقى الكنائس كلها كنيسة المسيح مشرق المشارق، وليست كنيسة متغربة عن تراثها وجوهرها البهيّ والحيّ.