لم يسبق أن عاش لبنان حالة الفوضى العارمة التي تعصف به الآن، ولم يسبق للدولة أن تعطلت كل مرافقها دفعة واحدة، حتى في ذروة الحرب الأهلية بحيث كانت المؤسسات أكثر انتظاماً وفاعليّة مما هي عليه اليوم.
كلّ شيء في البلد مجمّد ويكاد يتداعى، فالقضاء معتكف وممتنع عن إحقاق الحقّ والفصل في قضايا الناس، مصرف لبنان يتوقف عن العمل للمرّة الأولى في تاريخه ويعطّل معه المصارف والبورصة وحركة الأسواق المالية والتحويلات والسيولة، الضمان الاجتماعي يقفل أبوابه أمام المضمونين الذين ينشدون موافقة استشفائية أو قبض فاتورة دواء تعوّض عليهم فتات ما دفعوا للصيدليات، هيئة «أوجيرو» توقفت عن الجباية وإصلاح الأعطال، موظّفو كهرباء لبنان يلحقون بركب المضربين، فتبقى الأعطال على حالها، وتغرق مناطق في العتمة.
الأخطر من ذلك كلّه الشلل التام في حركة مرفأ بيروت وتجميد عملية التصدير واستخراج البضائع المستوردة، بما يضرب مصالح الناس ويحرم الخزينة من أموال طائلة، فيما يلوّح موظفو مطار رفيق الحريري الدولي باللحاق بركب القطاعات الأخرى، ما ينذر بوقف حركة الملاحة في المرفق الجوي الوحيد، أما عن تحركات أساتذة التعليم الرسمي فحدّث ولا حرج، فيما يبقى الجيش اللبناني الصامت الأكبر، ومعه المؤسسات الأمنية التي لا تقوى على الاعتراض أو الصراخ، مكتفية بحرقة داخلية تعبّر عن مرارة من يحمل دمه على أكفّه لحفظ الأمن والاستقرار وحماية البلاد من الدخول في أتون الفوضى.
كلّ هذه التحركات تندرج في سياق التدابير الوقائية، وقطع الطريق على موازنة تهدد بقضم جزء من مكاسب موظفي هذه القطاعات، لكنها في الوقت نفسه كفيلة بتحويل لبنان الى دولة فاشلة بكلّ المقاييس، ليس تنكراً للمطالب المحقّة لهذا القطاع أو ذاك، بل لغياب الرؤية لدى أركان السلطة، وفقدان الحلول البديلة التي تجنّب البلاد الجنوح نحو الأسوأ.
صحيح أن الموازنة تتحدّث عن إصلاحات بنيوية، وإجراءات لا بدّ من اتخاذها وان طال انتظارها، لكنّ وفق مصادر سياسية فإن الإصلاح في الموازنة «لا يعدو كونه جمل انشائية لا تقارب المشكلة الحقيقية، بمعنى أن كلّ الحلول الموضوعة ستقود الى طريق مسدود». وتؤكد المصادر أن «المضي بالخطوات الآيلة إلى لجم العجز على حساب الموظفين وأصحاب الدخل المحدود ستقود الى الفوضى العارمة وانهيار المؤسسات، كما أن صرف النظر عن الإصلاحات التي قطعتها الحكومة والتزمت بها في مؤتمر «سيدر» سيقود الى انهيار اقتصادي، وعندها لن يجد لبنان من يقف معه لا من دول «سيدر» ولا من الدول الشقيقة، ولا من المؤسسات الدولية المانحة والمقرضة».
ومع غياب الرؤية الحقيقة لماهية الموازنة وفذلكتها، ثمة من يجد أن لا طائل من الدخول بمعارك جانبية قبل أن تقرّ الحكومة الموازنة، ويؤكد مصدر وزاري، أن «الحرب الاستباقية على الموازنة غير مبررة، وكأن هناك حملة ممنهجة لتعطيل الدولة ومؤسساتها قبل إحالة الموازنة على المجلس النيابي». وإذ شدد على أن الحكومة «ملزمة باتخاذ قرارات مرّة وصعبة وقد تكون مؤلمة»، اعتبر أن «هذه القرارات لن تطال الطبقة الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود»، داعياً بعض القوى السياسية الى «الكفّ عن الشعارات الشعبوية وأن تكون شريكة في تحمّل المسؤولية والا ستكون شريكة في الانهيار الاقتصادي والمالي»، معتبراً أن «الكلّ معني بالانخراط في عملية وقف الهدر وتخفيف العجز وعصر النفقات، والا نحن مقبلون على كارثة لا مفرّ منها، لأن الانهيار إذا ما وقع لا سمح الله لن يبقى أحداً في السلطة ولن يبقي دولة».
وفيما تحاول الحكومة مقاربة الوضع بالأرقام، فإن هذه السياسة غير كافية لإقناع أصحاب الحركات الاحتجاجية بصوابية قراراتها، ويرى مصدر في الاتحاد العمالي العام، أن الحكومة «ما زالت تمارس سياسة طمر الرأس في الرمال، وتتغاضى عن معالجة مكامن الهدر والسرقة المقوننة». وسأل «ما الجدوى من المصاريف غير المجدية الواردة في مشروع الموازنة وصرف المليارات على المستشارين في رئاسة مجلس الوزراء والوزارات والإدارات؟، لماذا التغاضي عن الإصلاحات الحقيقية المتمثلة بتحرير الأملاك البحرية والنهرية والبرية من مغتصبيها سواء كانوا سياسيين أو محظيين؟»، معتبراً أن «محاولة السلطة تعويم فشلها على حساب الفقراء والموظفين، ليست الا مسكنات سرعان ما يذهب أثرها ويبقى المرض متفشياً في جسم الدولة»، داعياً الى معالجة أسباب الأزمة بمكافحة الفساد ووضع حدّ لاستباحة أملاك الدولة ووقف التهريب».
ما بين الهامش الضيّق لدى السلطة، وتصلّب الحركات النقابية وموظفي القطاع العام، ثمة أيام عصيبة تنتظر لبنان، يؤمل أن لا يكون عنوانها الغرق في الفوضى، وتلاشي ما تبقى من مقومات الدولة والمؤسسات.