مرَّت العلاقة في الفترة الأخيرة بين الرئيس سعد الحريري والدكتور سمير جعجع ببعض التجاذبات التي حسبها البعض ستطاول عمق هذه العلاقة. وزاد في ذلك أنّ مؤيّدين من هنا وهناك تمادوا في استغلال وسائل التواصل الاجتماعي وتركوا العنان لمخيّلاتهم أو مشاعرهم أو نواياهم في تحليلات وتوقعات لم تُبنَ على رؤية واضحة أو منطق متكامل.
أنطلق في كلامي عمّا لا يستطيع الحريري وجعجع تجاوزه من قناعات معيّنة عندي، أهمّها أنّ الرجلين مبدئيّان ويمتلكان رؤية شاملة للأمور، بحيث لا يمكن لمعوّقات بسيطة أن تغيّر اتجاه تفكيرهما. والرجلان صادقان في مواقفهما الّتي دفعا في سبيلها، بأشكال مختلفة، أثماناً غالية.
والرجلان تجمعهما قضية تصغر عندها كلّ القضايا، وهي أنّ مصلحة لبنان فوق أيّ مصلحة، وأنّ ذلك لا يكون إلّا بتأمين سيادته على كلّ أراضيه وقراراته وأن يكون الأمن فيه بيد الجيش وقوى الأمن الشرعية وأن لا يكون سلاح غير سلاحها.
ما لا يستطيع جعجع تجاوزه:
– قبل استشهاده في الرابع عشر من شباط 2005، خصوصاً بعد محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة ونجاته من الموت المحتّم، كانت علاقة الرئيس رفيق الحريري بالمحور الإيراني – السوري تزداد توتراً، وكان تقاربه يزداد مع المحور اللبناني المسيحي لمواقفه من استقلالية الدولة ومن تطبيق “اتفاق الطائف” وللموقف الذي اتّخذه في انتخابات بلدية بيروت بأنّ العدّ قد توقف وأنّ المناصفة أمر مطلوب بقوّة. هذا الأمر أعطى اطمئناناً للمسيحيين بعد شعار: لا أحد أكبر من وطنه، هذا الشعار الذي طوّره سعد الحريري إلى: لبنان أوّلاً.
– ثمّ إنّه لا أحد ينكر أنّ دم الشهيد رفيق الحريري وما تبعه من تحوّلات سريعة كان السبب في إطلاق سراح سمير جعجع من سجنه وفي إعادة الجنرال ميشال عون من منفاه، وفي اندفاع مئات الألوف يوم الرابع عشر من آذار 2005 في أروع مظاهرة وطنية لا يمكن أن تغيب عن ذاكرة سعد الحريري وسمير جعجع، لأنها كانت نقطة تحوّل في تاريخ لبنان.
– وفي أول انتخابات نيابية بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، كان سمير جعجع الخارج للتو من السجن منهَكاً جسديّاً لمعاناته الطويلة وكان بحاجة إلى فسحة يستعيد فيها نشاطه فكان سعد الحريري يجوب مع السيدة ستريدا جعجع المناطق “السنّية” حيث الشارع الأساسي لسعد الحريري من عكار إلى الضنّية وتلقى الترحاب العفوي من المواطنين.
ولا ننسى زيارتها إلى الطريق الجديدة، بما تعنيه الطريق الجديدة، والترحيب الذي لاقته السيدة جعجع من أهل هذه المنطقة العريقة في لبنانيّتها وعروبتها.
– لم يُتح ذلك لسمير جعجع الانفتاح على الشارع الإسلامي في لبنان وحسب، بل فتح أمامه الباب نحو العرب وتحديداً السعودية والخليج العربي حيث أصبح مرحَباً به باعتباره حليفاً للحريري وصديقاً للعرب وعنصراً ثابتاً في المعادلة اللبنانيّة.
مقابل ذلك فما لا يمكن لسعد الحريري تجاوزه:
– منذ خروجه من السجن ومنذ المسيرة التاريخية يوم الرابع عشر من شباط 2005 وسمير جعجع حليف صلب لسعد الحريري.
– إنّ حصر الانتماء السنّي بلبنان ورفع شعار (لبنان أوّلاً) قابله حسم الانتماء اللبناني، خصوصاً المسيحي إلى العروبة.
وقد أعطت هذه المعادلة اطمئناناً للبنانيين ولهويّتهم اللبنانية العربيّة. قد يبدو هذا الأمر عاديّاً ولكنه في غاية الأهمية لمَن يعرف أنّ المحور الإيراني يعمل على سلب هوية المنطقة بكلّ الوسائل العسكرية والإعلامية والتجييش المذهبي والإغراء بالمال والسلاح والمتاجرة بقضية القدس وفلسطين.
– لا يمكن لسعد الحريري ولا لشارعه نسيان يوم السابع من أيار 2008، يوم الغدر ببيروت واجتياحها من “حزب الله” وحلفائه وتوجيه قذائفهم إلى قصر قريطم بما له من رمزية وضرب وإقفال إذاعة دار الفتوى وإحراق جريدة “المستقبل” وتلفزيون “المستقبل” ونهب مؤسسات الحريري وقتل أكثر من سبعين بيروتيّاً بدم بارد، ثمّ اعتبار الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله أنّ هذا اليوم من أيام المقاومة المجيدة! وكما لا ينسى الحريري ذلك اليوم فإنه لا ينسى الذين وقفوا فيه إلى جانبه بصلابة وإخلاص وفي طليعتهم سمير جعجع.
– وعندما احتلّ “حزب الله” والميليشيات التابعة له وسط بيروت لأكثر من سنة وعطّلوا فيها كلّ مظاهر الحياة وملامح الحضارة في أداءٍ أقرب إلى التشفّي، وحاصروا السراي وفيها الرئيس فؤاد السنيورة ومعه بعض وزراء ونواب الرابع عشر من آذار، كان لسمير جعجع ذلك الموقف الشجاع وكانت زيارته إلى السراي رغم الوضع الأمني الخطير.
– وعندما أسقط “حزب الله” وحلفاؤه حكومة سعد الحريري وأصرّوا على أن يدخل البيت الأبيض رئيساً وأن تنتزع منه هذه الرئاسة وهو مجتمع بالرئيس الأميركي، في عملية يُراد منها إذلال سعد الحريري والانتقام منه إلى أبعد الحدود. في هذه الساعات السوداء كان سمير جعجع يقف بصلابة إلى جانب حليفه سعد الحريري.
– وفي ما يتعلّق بالثورة السورية فقد كان موقف جعجع منسجماً مع قناعاته السياسية ومتفّقاً كلّ الاتفاق مع موقف سعد الحريري.
– غير أنّ أهمّ موقف لسمير جعجع لا يمكن للحريري وشارعه الإسلامي والعربي أن ينساه، هو موقفه من (حلف الأقليات) الّذي تقوده إيران. فإيران ترى أنّ أنجع السبل للسيطرة على المنطقة العربية تمزيقها من الداخل متّفقة في ذلك، عن إرادة أو غير إرادة، مع المخطط الصهيوني.
لذلك طرحت نفسها أوّلاً حامية للشيعة ثمّ لبقية الأقلّيات في وجه الأكثرية السنّية. وما ينبغي توضيحه هنا أنّ الشيعة العرب الذين بقوا خارج سلطة الوليّ الفقيه هم جزء من المشهد العربي والوطني بكلّ أبعاده على مستوى رجال الدين كما على مستوى الطبقات الأخرى.
وفي وقتٍ أغرى هذا الحلف بعض الأقليات، كان موقف سمير جعجع تاريخيّاً برفضه كلّ الرفض هذا الحلف في وجه الأكثرية العربية السنّية. وهذا الأمر سيرتد ولا شك إيجاباً على العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في لبنان والدول العربيّة.
وهنا لا ننسى الموقف التاريخي أيضاً لوليد جنبلاط الذي رفض هذا الحلف أمام أصوات هزيلة كانت تروّج له.
أمام هذه الأمور المفصلية لا أرى أنّ بإمكان الرئيس سعد الحريري والدكتور سمير جعجع أن يتجاوزا هذه المحطات الأساسيّة في العلاقة بينهما، حيال بعض الخلاف في وجهات النظر، وهذا أمر طبيعي، حول لطشة من هنا أو لمزة من هناك أو حتى حول أمور مثل قانون الانتخابات الأرثوذكسي أو ترشيح النائب سليمان فرنجية والجنرال عون إلى رئاسة الجمهورية، فما يجمعهما أقوى بكثير وقد عبّر عن ذك الرئيس الحريري أكثر من مرّة بأنّه لا يفرّقه عن حلفائه سوى الموت، لا قدّر الله.