منذ 17 أيلول الماضي تاريخ إسقاط طائرة «ايل 20» الروسية قبالة الشواطىء السورية وتحميل موسكو اسرائيل مسؤولية إسقاطها باستغلال خطها الجوي في طريقها الى «قاعدة حميميم» الجوية، باتَ للغارات الإسرائيلية على سوريا معنى آخر. فقد رضخت تل أبيب لتحذيرات موسكو ثلاثة أشهر تقريباً قبل ان تستأنف غاراتها. ولذلك طرح السؤال: ألم يعد هناك من مانع روسي؟ والى متى ستضرب اسرائيل في سوريا؟
بمعزل عن الربط الذي حصل طوال الفترة التي غاب فيها الطيران الإسرائيلي عن السماء السورية بعد إسقاط الطائرة الروسية، إنشغلت الأوساط الديبلوماسية والعسكرية بمراقبة نتائج أعمال لجان التحقيق العسكرية المشتركة التي شكلت بين موسكو وتل ابيب لمعالجة ذيول إسقاط الطائرة على اعلى المستويات من ضباط الأركان وسلاحي الجو الروسي والإسرائيلي سَعياً الى ما سمّي في حينه «قواعد سلوك جديدة» للطيران الحربي الإسرائيلي فوق سوريا، ومن ضمنها في الأجواء اللبنانية وبنحو أوضح في نطاق أجواء الحماية التي فرضتها شبكة صورايخ الـ (S400) الروسية ومنصّات الـ (S300) التي قالت روسيا انها سلّمتها الى الجيش السوري النظامي في غضون الأيام العشرة الفاصلة عن تاريخ إسقاط الطائرة الروسية.
وكشفت تقارير ديبلوماسية وعسكرية دقيقة تسرّبت من موسكو الى عواصم غربية انّ التفاهم الروسي ـ الإسرائيلي الجديد الذي حكم مرحلة ما بعد إسقاط طائرة «ايل 20» لم يحمل أي مفاجأة. فالتفاهم الأساسي الذي رافَق الدخول الروسي المباشر في الأزمة السورية نهاية ايلول 2015 كان أصلب واقوى من ان تُنهيه حادثة الطائرة. ولذلك، فقد تم التفاهم سريعاً على آلية التنسيق بين تل ابيب وموسكو وفق قواعد جديدة بنيت على تفاهمات آنية أُشيرَ اليها بالنقاط الآتية:
1 – لا يمكن أي عملية عسكرية اسرائيلية ان تجري على الأراضي السورية بعد ذلك التاريخ من دون إبلاغ القاعدة الروسية في حميميم بتوقيتها والخطوط الجوية التي يجب اعتمادها وضمن مهلة كافية لتعميمها، منعاً لأي صدام بين طائرات الطرفين ولمنع تكرار ما حصل في ايلول الماضي.
2 – التريّث الروسي في بدء تشغيل شبكة صواريخ الـ (S300) التي قيل إنها باتت في حوزة القيادة السورية، وإبقائها الى فترة معينة يجري تحديدها في عهدة القوات الروسية الجوية وخبرائها.
وهو ما شكّل اعترافاً روسياً ضمنياً بأنّ خطأ إرتكب في الوحدة 44 من القوة الصاروخية الجوية السورية التي تدير شبكة الصواريخ المنصوبة في جوار مدينة اللاذقية (S200)، التي أسقط أحد صواريخها الطائرة الروسية نتيجة التحقيقات المعمّقة التي جَرت بين الجانبين الروسي والإسرائيلي.
3 – وقف استخدام الخطوط الجوية القريبة من شبكة الـ (S400) الروسية المنصوبة في «قاعدة حميميم» شمال مدينة حمص. علماً انّ مجالها الجوي يمكن ان يمتد شعاعه الى عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة جنوباً وتركيا شمالاً وعمق العراق شرقاً وأعمق من المياه الإقليمية السورية غرباً وصولاً الى أطراف المياه الإقليمية اليونانية والقبرصية.
وهو البند الذي قاد الى بدء استخدام اسرائيل في غاراتها الثلاثة التي شنّتها بعد إسقاط الطائرة الروسية على سوريا خطاً جوياً يمتد من عمق البحر المتوسط جنوب بيروت بـ 12 كيلومتراً تقريباً بدلاً من اعتماد الخط الممتد من جرود كسروان وصولاً الى بعلبك ـ الهرمل، كذلك الحدود البحرية للمياه الإقليمية السورية قبالة طرطوس واللاذقية التي استخدمت في غارة أيلول.
4 – إعطاء الحق لإسرائيل بقصف القواعد الإيرانية وتلك التابعة لحلفائها في سوريا ما لم تلتزم هذه القوى الإنسحاب بعمق الـ 85 كيلومتراً المتّفق عليه شمال خط الجولان السوري المحتل، والذي تعهدت موسكو تنفيذه عقب التسوية التي أعادت تسليم الجيش السوري المناطق المقابلة للجولان المحتل وفتح معبر «نصيب» البري مع الأردن.
وهو ما ظهر جلياً في تركيز الغارات الجوية الإسرائيلية أخيراً على المنطقة الواقعة في نطاقها من العاصمة السورية الى ريفَيها الغربي والجنوبي، وتحديداً القواعد الإيرانية في منطقة الكسوة ومحيط مطارَي دمشق المدني والمزة العسكري من دون أن تطاول الشمال السوري منذ ذلك الحين الى الآن.
والى هذه المعطيات التي تحدثت عنها تقارير تمّ تبادلها في نطاق ضيق، فإنّ تل ابيب إستخدمت في غاراتها الأخيرة طائرات (F35) المتطورة منعاً لأيّ خطأ يمكن ان ترتكبه أي جهة في سوريا على رغم معرفتها أنّ شبكة الصواريخ الـ (S300) لم تسلّم الى القيادة السورية بعد، وهو أمر اتّبعته القوات الأميركية التي كانت تجري ما بين نهاية ايلول وبداية كانون الأول من العام الماضي مَسحاً يومياً للأراضي السورية بواسطة هذه الطائرات عينها والتي تسمّى «الشَبَح»، وهو ما يعني تعويضاً عن غياب الطيران الإسرائيلي عن الأجواء السورية.
وكشفت هذه التقارير انّ اسرائيل أبلغت الى من يعنيهم الأمر من روس واميركيين ودول الحلف الدولي ضد الإرهاب انها ماضية في توجيه ضرباتها الجوية في سوريا بلا هوادة الى القواعد الإيرانية وتلك التابعة لحلفائها، ومن بينهم «حزب الله» و«كتائب ابو الفضل العباس» العراقية والقوات «الأفغانية» والفصائل الأخرى التي تمّ تشكيلها بإشراف الحرس الثوري الإيراني.
وتشير التقارير نفسها الى انّ الإستراتيجية الإسرائيلية أبعدت لبنان في هذه المرحلة كونه مصدراً للأخطار المباشرة عليها وتلك الناجمة ممّا يجري في غزة، وتوافقت مع القوى الدولية على حصر المخاطر من الجانب الشرقي لحدودها من سوريا الى العراق، وهو أمر لقي تفهّم جميع الأطراف.
ولذلك، فإنّ الغارات الإسرائيلية على سوريا مستمرة بلا أُفق والى أمد غير منظور، ولا علاقة لها بما يُحكى عن تعويض الانسحاب الاميركي من سوريا، فهو لا يعنيها بمقدار ما يعني القوى الأخرى التي تؤدي أدواراً على الأراضي السورية والدول المحيطة بها كتركيا والعراق، على قاعدة مواجهة النفوذ الإيراني وتقليصه في المنطقة.