كل زعماء العالم تناولوا ما حدث في مدينة كرايستشيرش النيوزيلاندية على أنه مشكلة دولية تهدد جميع سكان العالم. كل الزعماء بلا استثناء أدانوا الجريمة الإرهابية، وعدوها مؤشراً خطراً يُنذر بتهاوي مصفوفة القيم التي تضبط الشبكات الاجتماعية متعددة الأديان والأعراق. الزعماء المسلمون وعلى رأسهم الملك سلمان بن عبدالعزيز أكدوا ضرورة قيام المجتمع الدولي بواجبه في مواجهة خطابات الكراهية والإرهاب، وشددوا على ضرورة حماية مبادئ التعايش بين الشعوب. وزعماء العالم المسيحي بلا استثناء وعلى رأسهم دونالد ترامب وأنغيلا مركل وتيريزا ماي وإيمانويل ماكرون استخدموا اللغة الحازمة نفسها في إدانة الفعل الهمجي البربري الذي تعرض له قصداً مصلون آمنون في دار عبادة.
وحده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، راح يغرد وحيداً، ويربط ما حدث في المدينة النيوزيلاندية الوادعة برغبة غربية مبيتة في الانتقام منه شخصياً!! وحده الرئيس التركي، جرّد الفاجعة من بعدها الثقافي والديني والفكري، وحولها إلى قضية سياسية يتكسب من ورائها داخلياً وخارجياً.
المتتبع لتصريحات أردوغان الأخيرة يعرف أن الرجل يواجه ورطة داخلية كبيرة، ويحاول أن يتجاوزها في كل مرة بصناعة جسر من التصريحات الملتهبة والمواقف الحادة، بأمل الانتقال إلى ضفة أخرى أكثر هدوءاً وأقل مشاكل.
من الواضح أن الرجل ذا الصوت الجهوري يعاني. ومن الواضح أن معاناته في الداخل تزداد باطراد الزمن. ومن الواضح أكثر أن الرجل اختار مواجهة أزماته الداخلية بالعمل على أسطرة نفسه وتدويل مشاكل تركيا. هكذا وضع الرجل الرمادي الذي لا يضحك كثيراً خطته! وهكذا وجدت تركيا نفسها.
تعلّم أردوغان خلال السنوات القليلة الماضية من الإيرانيين، أصدقائه الجدد، كيفية نقل المشكلة الداخلية إلى الخارج. علموه كيف يخفف الضغوط الداخلية بخلق مشاكل خارجية تسيطر على وعي المواطن قسراً، وتصنع رأياً عاماً جديداً يقف ضد الرأي العام القائم. يحتال عليه حيناً، ويواجهه حيناً، ويتقاتل معه في بقية الأحيان!
قبل أن يتحول أردوغان للمدرسة الإيرانية، كان الانقلاب المشكوك في حقيقته في 2016 هو نقطة البدء في مواجهة أزماته الداخلية، لكن ذلك لم يصنع رأياً عاماً صلباً في الداخل يحميه ويحمي جماعته، بل ازداد الأمر سوءاً عندما بدأت النخب والدوائر الفاعلة في تركيا بالانقلاب عليه وعلى حزب العدالة والتنمية احتجاجاً على موجة الاعتقالات غير المبررة التي طاولت عشرات الآلاف من القضاة والصحافيين ونشطاء الحقوق المدنية بحجة انتمائهم لجماعة فتح الله غولن.
سقطت نظرية «واجه الأزمة بأزمة أكبر منها» بعد الانقلاب بأسابيع قليلة، إذ أخذ الرأي العام الداخلي شيئاً فشيئاً في الابتعاد عن منصات دعم «جماعة أردوغان»، وزاد الأمر سوءاً تهاوي الليرة وتراجع الاقتصاد نتيجة لانكشاف الخزينة التركية بسبب «التنمية الوهمية» التي لم تبن على أسس واقعية، وإنما بُنيت على أعمدة مؤقتة ومستعارة لأهداف انتخابية وترويجية.
ولأنه لا يمكن أن يأتي الانقلاب في إثر الانقلاب، ذهب أردوغان مباشرة لتطبيق مبادئ المدرسة الإيرانية، منهياً بذلك عصراً تركياً متذبذباً من «تصفير المشاكل» مع الدول الخارجية وضع أسسه وقواعدة رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو.
جاءت قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، فنقل الرجل كل أسرار البيت التركي إلى الخارج! اختار أن يعرّي تركيا في مقابل بقاء القضية حاضرة في الدوائر الإعلامية والديبلوماسية العالمية لأطول فترة ممكنة بهدف إشغال الداخل التركي وتشتيت انتباه الرأي العام المحلي. وحاول مراراً استعداء «الغرب المسيحي» على السعودية، وسعى أكثر من مرة لإيقاع عقوبات دولية على الرياض مستعيناً بكلمات محتالة وجمل ملتوية وصوت مخاتل. كل ذلك من أجل هدفين رئيسين: الأول إزاحة الرياض عن زعامة العالم الإسلامي والثاني تعزيز الانتماء القومي في وجدان الأتراك ليتعالوا قليلاً عن مواجهته في الداخل، ويستبدلوها بالدخول في عثمانيته الجديدة مدفوعين بوطنية مصنوعة.
وعندما استطاعت الرياض أن تعود بالقضية إلى حجمها الطبيعي، باتخاذ الإجراءات المناسبة والمتوافقة مع الأنظمة المعمول بها محلياً والقوانين الدولية، راح الرجل يبحث عن مخارج جديدة يخدع بها شعبه.
خسر أردوغان قضية خاشقجي، لكنه لم يخسر قضيته ضد شعبه، إذ سرعان ما انتقل إلى الملف المصري مهاجماً زعماء الدول الغربية لقبولهم دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي لحضور القمة العربية – الأوروبية في شرم الشيخ. ظل يغازل الرأي العام المحلي على مدى أسابيع بتصريحين يومياً. واحد في الهواء الطلق موجه للناخبين القرويين والريفيين والفقراء، وآخر في وسائل الإعلام موجه لقاعدته الانتخابية في المدن الكبرى، لكن حجم القضية لم يكن كافياً لصناعة رأي عام محلي قوي، خصوصاً وأن المصريين لم يبادلوه التصاريح والفراغ الكلامي! ترنح الرجل الرمادي قليلاً ثم جاءته الفرصة الأكبر: المسجد النيوزيلاندي.
أخذ أردوغان الحادثة الإرهابية من المسجد ووضعها في حقيبته الجلدية وراح يدور بها في الداخل والخارج. يقول في الداخل إننا مستهدفون من الغرب وعليكم أن تبقوا معي كل الوقت لأحميكم من مؤامراتهم وألاعيبهم! ويقول في الخارج إنني الزعيم الأوحد للمسلمين وعلى من يريد أن يتواصل مع العالم الإسلامي المجيء لي أولاً.
يفعل ذلك من أجل الفوز في الانتخابات البلدية المقبلة ليتقاسم هو وحزبه غنائم البلديات، وليمنع حصول المعارضة على أي فرصة قد تصنع منها في المستقبل منافساً شرساً في الانتخابات النيابية والرئاسية.
ويفعل ذلك ليؤجل الثورة الداخلية وشيكة الحدوث والتي يسمع لها اضطرام بسبب القمع الممنهج للنشطاء والكبت المؤدلج لعامة الناس.
قلت في المقالة السابقة ان أردوغان يريد أن يسرق زعامة العالم الإسلامي ليكون نداً لأوروبا، وأضيف اليوم أنه يريد أن يكون نداً لأوروبا لأنه لا يثق في شعبه كثيرا.