مثلما كان متوقعاً، نفذ الرئيس الأميركي دونالد ترمب تهديده بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وذهب خطوة أبعد بإعلانه عن إعادة فرض عقوبات مشددة على النظام الإيراني، متجاهلاً مناشدات وضغوط حلفائه الأوروبيين، الذين رأوا أن الاتفاقية، وإن احتوت على بعض النواقص، إلا أنها نجحت في عرقلة برنامج طهران النووي، ووضعته تحت مراقبة مشددة لمنع حصولها على قنبلة نووية على الأقل حتى 2030.
جادلت هذه الدول بأنه بدلاً من انسحاب أميركا من الاتفاق الذي استغرقت مفاوضاته نحو السنتين واستنفد جهوداً هائلة، يمكن العمل على إدخال تعديلات عليه؛ لكن ترمب تمسك بموقفه الذي يعتبر الاتفاق صفقة سيئة؛ بل كارثية، ولا يمكن ترقيعه؛ بل يجب إعادة التفاوض حوله لتضمينه قيوداً على برنامج طهران الصاروخي، وعلى سياساتها العدوانية في المنطقة.
بإقدامه على خطوة الانسحاب، يكون ترمب قد التزم بوعده الانتخابي، وخطا خطوة أخرى في جهوده لتفكيك إرث أوباما، بعد خطوته الأولى التي استهدفت برنامج الرعاية الصحية. الواقع أنه أيضا لجأ إلى السياسة الوحيدة التي يتقنها، وهي سياسة «فن الصفقات»، في ممارسة أقصى الضغوط والتشدد قبل تقديم بعض التنازلات، للحصول على أفضل صفقة ممكنة. في الوقت ذاته، فإنه فتح المجال لتبادل الأدوار مع الحلفاء الأوروبيين، ضمن لعبة «الشرطي الطيب والشرطي الشرير» لدفع إيران للموافقة على إعادة التفاوض، لإضافة بنود أو ملاحق للاتفاق، تشمل برنامجها الصاروخي وسياساتها الخارجية العدوانية في المنطقة.
ترمب، وإن انسحب بشكل منفرد من الاتفاق النووي، إلا أنه لا يريد شطبه نهائياً، فالغاية هي التعديل لا الإلغاء، لذلك حرص على القول في كلمته أول من أمس، إن أميركا تبقى مستعدة للعودة إلى الاتفاق بمجرد تحقيق التعديلات المطلوبة. بعد الانسحاب يستطيع ترمب القيام بدور «الشرطي الشرير» شاهراً عصا العقوبات، ومتبنياً لهجة التصعيد، تاركاً الأوروبيين لممارسة دور «الشرطي الطيب» لإقناع إيران بتعديل الاتفاقية. فالانسحاب الأحادي يحقق عدة أمور، أهمها أن الاتفاق بقيوده ما زال مطبقاً على إيران ما دامت الأطراف الأخرى ملتزمة به، في حين أن أميركا تستطيع فرض عقوبات وتشديد الضغوط الاقتصادية والسياسية. لكن الكثير سيعتمد على الطريقة التي ستتعامل بها واشنطن في موضوع العقوبات مع حلفائها الأوروبيين، الذين ستحتاجهم لتحقيق التعديلات على الاتفاق. فهناك شركات أوروبية كبرى استثمرت أموالاً ضخمة في إيران بعد رفع العقوبات في إطار الاتفاق، وحماية هذه المصالح الاقتصادية كانت بنداً واضحاً في بيان الاتحاد الأوروبي، عقب إعلان خطوة الانسحاب الأميركي. واشنطن ستحتاج إلى لعب ورقة الانسحاب بمهارة دبلوماسية عالية؛ لأنها لا ترغب في استعداء حلفائها، ولا تريد أن تسمح لطهران باللعب على أي خلافات أوروبية – أميركية.
ترمب وبعض أركان إدارته يرون أن النظام الإيراني، خلافاً للمظاهر، ضعيف، ويواجه نقمة شعبية متزايدة، وبالتالي فإن تشديد الضغوط عليه سيؤدي إلى واحد من ثلاثة احتمالات: فإما أن يشتعل الغضب الشعبي وتعود مظاهرات الاحتجاج فيسقط النظام، أو يرضخ النظام تحت الضغط ويقبل بإعادة التفاوض حول الاتفاقية النووية، ويمتثل للمطالب الداعية إلى تقييد برنامج الصواريخ، أو تتفاقم الصراعات بين المتشددين والإصلاحيين بما يضعف النظام ويشغله بنفسه، ويجعله عرضة للسقوط. لكن في المقابل هناك من يرى أن النظام الإيراني، وإن واجه مشكلات داخلية، إلا أنه لا يبدو على وشك السقوط، وأنه يمكن أن يستخدم الانسحاب الأميركي من الاتفاقية النووية وإعادة فرض العقوبات، كشماعة يعلق عليها مشكلاته، وكورقة لتوحيد الإيرانيين، وتصوير أميركا على أنها تريد إضعاف إيران وليس النظام، وأنها لا تلتزم بتعهداتها، ما جعلها معزولة في موقفها مقابل الأطراف الأخرى في الاتفاقية التي بقيت متمسكة بها.
خروج وزير الخارجية ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر من الإدارة الأميركية، وحلول مايك بومبيو وجون بولتون محلهما، عزز موقف ترمب المتشدد إزاء إيران والاتفاق النووي، وجعل فريقه ينطق بلسان واحد في هذا الملف، وعينه في الوقت ذاته على ملف كوريا الشمالية، قبل اللقاء المرتقب مع رئيسها كيم إيل جونغ. فالرئيس الأميركي يبدو مقتنعاً بأن الخط المتشدد الذي انتهجه مع كوريا الشمالية و«حرب التغريدات» التي خاضها ضد كيم جونغ، هي التي دفعت بيونغ يانغ لتقديم عرض التفاوض مع واشنطن، وبالتالي فإن التشدد مع إيران قد يكون الطريق لتحقيق التعديلات المطلوبة في الاتفاق النووي.
واشنطن تبعث أيضاً برسالة إلى كوريا الشمالية قبل اللقاء المرتقب بين رئيسي البلدين، مفادها أن الاتفاق مع إيران ليس مقبولاً، فلا تفكروا في أن تطلبوا مثله، وأن أي اتفاق معكم بشأن الملف النووي يجب أن يشمل أيضاً موضوع الصواريخ الباليستية، والسياسات الخارجية العدوانية، والسلوك الإقليمي، مثلما هو مطلوب من إيران في ملفها النووي. واشنطن تعرف الحبل السري الذي يربط إيران وكوريا الشمالية، وترى الرابط بين أي اتفاق يتم التوصل إليه في ملفيهما النوويين، بكل ما يعنيه ذلك من تعقيدات. يبقى السؤال: هل تملك إدارة ترمب القدرة والحنكة لتحقيق مطالبها في ملفين من بين أسخن الملفات أمامها؟