على طريقة «يأتيك بالخبر اليقين من حيث لا تدري» ألقى رئيس مجلس النواب نبيه بري حجراً في بركة التأليف الحكومي الراكدة، فدعا الى إحياء اجتهاد دستوري عمره 50 عاماً لإقرار موازنة 2019، فأصدر حكمَه بفشل كل المساعي المبذولة لتأليف الحكومة. فما الذي يعنيه إحياء حكومة تصريف الأعمال توقيتاً وشكلاً ومضموناً؟
ليس هناك في العلم الدستوري ـ بحسب خبراء دستوريين- ما يشير الى استحالة إحياء اجتهاد دستوري مهما طال الزمن. ففي لبنان يعود التاريخ مرة أخرى غصباً عنه وعن الدستور لمجرد تفاهم الافرقاء السياسيين على ما يريدون منه. فيجدونه مطاطاً وجاهزاً يمكن تطويعه واستخدامه لتلبية الرغبات والأماني، خصوصاً متى عُثِر على العنوان «الوطني الكبير» الذي يبرّر العودة الى الى هذا الاجتهاد. ولا تقف الأمور عند المبادئ متى باتت الحاجة الى خدمة شخص في حدّ ذاته، فكيف عندما يتصل الأمر بمصلحة «وطنية عليا» كالتي نعيشها اليوم. والتجارب السابقة خير دليل على التعديلات الدستورية التي أُجريت في اكثر من مناسبة ومحطة، فالغاية تبرّر كل الوسائل ايّاً كانت.
في مثل المحطة التي يعيشها لبنان تُطرح فكرة احياء اجتهاد دستوري يقود الى اقرار موازنة 2019 كان إعتُمد أيام حكومة الرئيس رشيد كرامي عام 1969 عندما تعذّر عليه كرئيس مكلف تشكيل حكومة جديدة لأكثر من سبعة اشهر وهو رئيس حكومة تصرّف الاعمال، فإنعقدت تلك الحكومة يومها وأقرّت الموازنة وأحالتها الى المجلس النيابي للبتّ بها وتسيير أمور الدولة وشؤون المواطنين.
وبمعزل عن الظروف التي حكمت تلك الفترة، وحجم الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد خلالها، لم تكن هناك «إستشارات نيابية ملزمة لرئيس الجمهورية بنتائجها كما هي الحال الآن بعد «اتفاق الطائف» حيث يكلف رئيس الجمهورية مَن ينال تأييد الاكثرية النيابية تأليف الحكومة، وكذلك لم تكن هناك مهل لهذه العملية لكنّ ظروف التكليف ومدته كانا في يد رئيس الجمهورية فقط حيث كان «يشكل الحكومة ويسمّي الوزراء ويختار مِن بينهم رئيساً لها».
وبمعزل عن تلك المرحلة والظروف السياسية التي حكمتها، وجد اقتراح بري تفسيراً منطقياً لدى غالبية القوى السياسية بعد تنويه البعض بقدرته على نبش المخارج. لكن ما يجدر التوقف عنده هو أنّ رئيس الجمهورية لم يقل رأيه الصريح في هذا الإقتراح، ولا الرئيس المكلف ورئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري قال كلمته الفصل فيه حتى الآن، على رغم ما نقل عنه من ترحيب، ولكنه واقع لم يدعُ الحكومة الى جلسة من هذا النوع حتى الآن.
وعليه فقد فتح اقتراح بري مجالاً لنقاش سياسي اكثر ممّا هو دستوري، ورأى فيه البعض رسالة مدوية الى اصحاب المخارج المقترحة لتأليف الحكومة لتنتفي الحاجة الى مثل هذا الاقتراح على رغم كل المحطات الكبرى والإستحقاقات المقبلة على البلاد والعباد. فالأوضاع الإقتصادية والمالية لم تعد تتحمّل كثيراً من الترف في التعاطي مع ضرورة وجود حكومة كاملة الأوصاف الدستورية لمواجهتها سواء تلك التي فرضتها أحداث الداخل أو الخارج. فليس هناك من فوارق كبيرة تُحتسب في الحياة السياسية اليومية للبنانيين بين الحاجة الى حكومة كاملة ووجود أخرى تُصرِّف الأعمال، وهو ما يلقي بأثقال كبيرة على مَن يخشى تردّدات البقاء على هذه الحال من الجمود السياسي الذي لا بدّ أن ينعكس يوماً على نواحي الحياة المختلفة وطريقة تعاطي العالم مع لبنان وحكومته المفقودة.
عند هذه المعطيات فُسِّر اقتراح بري أنه نعيٌ مسَبق لكل المساعي المبذولة لتأليف الحكومة الجديدة. وطلب بري من الحريري احياء هذا الإجتهاد يكشف إقتناعه أنّ تشكيل الحكومة في القريب العاجل هو وهمٌ وسراب. وأنّ جملة الإقتراحات القديمة والجديدة التي عكستها لقاءاتُ بعبدا و»بيت الوسط» ما زالت تدور على نفسها وكأنها في «الشرنقة» القاتلة متى اكتمل الحصار المفروض على كل المخارج المحتملة.
ومن هذه المعطيات، يبدو للمراقبين أنه على رغم كل المخاوف التي عكستها المواقف الرسمية أو تلك التي تقارب الملفّ الحكومي من زوايا مختلفة فإنّ العجز بادٍ من دون أن يكلّف أحدٌ نفسه عناء البحث عنه. والحديث عن حكومة من 36 وزيراً في بلد مفلس بعد سقوط فكرة حكومة من 32 وزيراً هو عقم سياسي يزيد من الشلل في البلاد. وعلى رغم ذلك يتفرّج الجميع على فقدان المبادرات الضائعة بين مواقف لا تبغي سوى «تقويم الكلام» على قاعدة أنّ «بيّي أقوى من بيّك» وهو ما عبّر عنه مرجع سياسي كبير بات يخشى على ما تحقّق من إنجازات، وقد بدأ إحصاء وتعداد الخيبات والفرص الضائعة وتلك المرشّحة للضياع بسبب الظروف المواكبة لإنعقاد القمّة الإقتصادية العربية في بيروت الى مصير قروض «سيدر 1» وأمواله على رغم كل الجهود المحلية والدولية التي بُذلت من أجله. ولا تسقط من اللائحة عينها نتائج مؤتمري «روما 2» و»بروكسل 2» المعنيّين بالمؤسسات العسكرية والأمنية والنازحين السوريين على رغم حرص المجتمع الدولي على هذه المؤسسات بوجود قرار بدعمها بمعزل عن فشل الطاقم السياسي.
ولا يُسقط المرجع من لائحة مخاوفه الإستحقاقات الإقتصادية المرشحة للتفاقم وأولى بوادرها الخطيرة الإضراب الذي نُفّذ امس، وهو امر لم ترصده السلطة، فعبّرت عن مخاوفها لمجرد الدعوة اليه لإعتقادها انه خطوة من الخطوات السلبية المرتقبة على اكثر من مستوى، فعملت على تعطيله وتفريغه من مضمونه بجملة ضغوط غير مرئيّة شملت اكثر من قطاع بالتكافل والتضامن بين اهل الحكم والحكومة على رغم خروج البعض منهم عن موقفه المتضامن ومعه الهيئات الإقتصادية.
ويرى المرجع أنّ فشل المساعي لتأليف الحكومة يبرّر الدعوة الى جلسة حكومية للبتّ بموازنة 2019 في ظلّ التحذير الذي أطلقه وزير المال من عدم توافر المال لوزارات عدة خلال الشهرين المقبلين من دون أن يدخل في أيّ تفاصيل. فالمواقف لم يعد لها وزن سياسي أو إداري في مرحلة يعمّ فيها الفشل اكثر من قطاع ومؤسسة وسط ازدياد المخاوف ممّا هو آتٍ.