يتلمَّس العونيون والقواتيون حملة تستهدفهم لمجرَّد التقارب. ويضبط النائب إبراهيم كنعان إجابته عندما يُسأل على الشاشة: «مَن هم أصحاب الحملة عليكم»؟ ويبدو أنّ هناك ماءً في فم العونيين يريدون مداراته… حتى الآن!
الدرس الذي يُفترض أن يكون قد تعلَّمه العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، إذا كانا فعلاً يتقاربان لاستعادة الشراكة الوطنية، هو الآتي: إنّ حلفاء عون وجعجع، الشيعة والسنّة، لم يكونوا مرّة جدّيين في دعم أيٍّ منهما، لا في بلوغه رئاسة الجمهورية ولا في إجراء الانتخابات، ولا في قانون الانتخاب، ولا أيّ من التعيينات التي خسر فيها المسيحيون مواقعهم.
واللافت هو أنّ العونيين والقواتيين باتوا يعترفون بأنهم كانوا على خطأ، وما زالوا، لأنهم تجاهلوا لسنواتٍ طويلة أنّ الحلفاء على الضفّتين يناورون ويلعبون على التناقضات المسيحية، لاستمرار تمتعهم بالمكاسب التي حققوها خلالَ مرحلة الوصاية السورية، أيْ في زمن استبعاد القيادات المسيحية نفياً وسجناً.
وهذا الاعتراف العوني والقواتي بقي ضمن الجدران المغلَقة حتى الآن، لكنه بدأ يخرج تدريجاً إلى العلن. فلا يمكن الاستمرار في الالتباس والتناقض بين منطوق «ورقة إعلان النيّات» من جهة وحيثيات الشراكة الغامضة مع الحلفاء من جهة أخرى. ولا يمكن أن يثمر التقاربُ بين الطرفين ويتَّخذ أبعاداً عملية ما لم تنكشف كلّ الملابسات التي تعترضه، وأبرزها موقف الشركاء ممّا يسميه العونيون والقواتيون معاً: إستعادة الحقوق المسيحية.
من خارج الحزبَين المسيحيَين، لطالما ارتفعت أصوات تنبّه إلى أنّ حلفاء عون وجعجع يناورون ويلعبون على التناقضات المسيحية، وأنهم لا يريدون أياً منهما لرئاسة الجمهورية، ولا يريدون قانوناً للانتخابات يصلح الخلل. لكنّ هذه الأصوات كانت تُقابَل إما بالتخوين وإما بالتجاهل.
واليوم، بات عون وجعجع مقتنعَين بأنهما أضاعا الوقت في المناورات وانتظار ما لا يأتي. ومن خلال الدينامية التي يطلقها اليوم عون صاخباً وجعجع هادئاً، يوحي الطرفان بأنّ الواقع المسيحي يتغيَّر.
وهناك إشاراتٌ عدّة إلى ذلك:
– يعلن عون أنّ «القوات اللبنانية» التي حاربها بالمدفع حتى الإلغاء في 1989- 1990 كانت على حقّ في الفدرالية.
– تعترف «القوات» أنّ الحلف الرباعي، في العام 2005، لم يكن يُراد منه استبعاد عون بل المسيحيين جميعاً. فجعجع لم يكن قد خرج من السجن عند إبرام الاتفاق، ولم يحصد ثماره.
– يعترف عون وجعجع أنهما معاً «غير مرغوب فيهما» من جانب الحلفاء في موقع رئاسة الجمهورية، وأنّ الحلفاء يفضلون «اللالون واللاطعم واللارائحة»… فهو لا يتسبَّب بوجع الرأس.
– يعترف عون وجعجع أنّ صراعَهما على قانون انتخابات، من «الأورثوذكسي» إلى الدوائر الـ50 إلى النسبي لم يكن سوى تغطية لرغبة في تأجيل الانتخابات وعدم القبول بأيّ قانون يناسب المسيحيين.
– يعترف عون وجعجع أنّ خلافهما على الزعامة في البيت المسيحي لم يورث سوى الأضرار على الواقع المسيحي، وأنه زاد في تنافر الشباب المسيحيين وإحباطهم وقرفهم من البلد.
– يعترف عون وجعجع بأنّ أيّاً منهما لا يمون على أيٍّ من حلفائه في استعادة أيّ موقع خسره المسيحيون في مرحلة سابقة.
إذاً، فالعنترياتُ التي مارسها الحزبان، الواحدُ ضدّ الآخر، عبرَ المنابر والشاشات، على مدى سنوات، حيث كان كلٌّ منهما يحصر الأزمة بخصمه المسيحي، تبيَّن أنها كانت كلها بلا أساس، وللمتاجرة السياسية فقط. وقد ساهمت فيها القوى الحليفة في الجانبين لـ»زيادة عامل الإستثمار»!
ولم تسمح الديموقراطية والشفافية للقوى الحزبية بالاستماع إلى التحذيرات المبنية على المنطق. فهي تفضِّل أصوات التصفيق في القاعات والمنابر، كما سائر «الأحزاب» والجماعات عند العرب ودول العالم الثالث.
اليوم، يشنّ بعض القوى حملات غير مبرَّرة على التقارب المسيحي- المسيحي. وهذه الحملات يفتعلها الفريق إياه الذي اعتاد التصفيق هنا والشتائم هناك، لدفع عون أو جعجع إلى الالتصاق هنا أو هناك.
لو كان البلد يقوم على المقوِّمات الوطنية، ولو كان هاجس الحلفاء هو الشراكة الوطنية، لكان على عون وجعجع أن يستمعا إلى منطق الشراكة لا منطق المصالح الطوائفية. لكنّ غالبية القوى السنّية والشيعية تتكتّل مذهبياً، لتخوضَ صراعاً واحداً مريراً على مستوى الشرق الأوسط، ولبنان أحد ساحاته. ويراهن كلٌّ من الطرفين على انتصار إقليمي يترجمه لبنانياً أيضاً.
وينظر كلٌّ منهما إلى الشريك المسيحي كجزءٍ مكمِّل لانتصاراته، لا كشريكٍ في هذه الانتصارات… إذا تحقّقت يوماً! حتى اليوم، لم يخرج عون وجعجع من الانتظار، ولاسيما في ملفّ رئاسة الجمهورية.
والحلقة 26 آتية. وأول معالم الخروج هو اتفاقهما وسائر المسيحيين على تسمية رئيس للجمهورية ينزلون به إلى المجلس، فيفرضون انتخابه. فلا أحدَ يستطيع التنكّر لوعده: «فليتفق المسيحيون على مرشح وسننتخبه».
عاجلاً أو آجلاً، سيواجه عون وجعجع الاستحقاق: إما مواجهة الحلفاء بالمنطق «المسيحي» أيّاً تكن النتائج… وإما البقاء في أحضانهم أيّاً تكن النتائج. فماذا سيختاران؟