اعتادت بعض الأوساط النافذة في المعارضة السورية إبداء مواقف متصلّبة في قضايا الصراع الدائر بما لا يتناسب مع ضعف امكاناتها ومكانتها، ولا مع هشاشة أوضاعها واضطراب مواقفها، ولا مع ارتهاناتها الدولية والإقليمية، حتى ولو كانت تلك المواقف محقّة ومشروعة وعادلة، وطبعاً ليس القصد هنا تلك المواقف التي تطرح للسجال السياسي أو التفاوضي.
مثلاً، فإن تلك الأوساط كانت شكّكت بمؤتمر «سوتشي»، قبل وبعد انعقاده، لكن بعضاً منها شارك فيه، أو نظّر للمشاركة فيه، كما حصل في معارضتها مسار آستانة التفاوضي ثم قبولها به أو سكوتها عنه، عملياً، رغم أن هذا المسار تهيمن عليه روسيا، وتعد إيران شريكة النظام طرفاً أساسياً فيه، ورغم أن فرض هذا المسار جاء للالتفاف على المسار التفاوضي الأممي في جنيف، ما يعني أن موقف تركيا هو العامل المؤثّر في الحالتين. أيضاً، ومعلوم أن هذه الأوساط كانت ترفض أية عملية تفاوض، إذ أنها رفضت بيان جنيف1 (2012)، في حينه، وترددت في خوض الجولة الثانية من مفاوضات جنيف عام 2014، لاعتبارها أن إسقاط النظام لا يكون إلا بالعمل المسلح، إلا إنها انخرطت في اتفاقيات «خفض التصعيد» (في العام الماضي)، كما في بعض الهدن المحلية (كفريا والفوعة مقابل الزبداني ومضايا مثلاً،)، وكذلك فهي رضيت بسحب جزء كبير من الفصائل العسكرية من حلب (أواخر العام 2016)، ما أدى إلى سقوط مواقعها فيها، لصالح عملية «درع الفرات»، ليس نتيجة لتولد قناعة ذاتية عندها، أو بحكم رؤيتها لأولوياتها أو لواقعها، وإنما استجابة لتأثيرات خارجية. ويأتي في ذات السياق تأييد هذه الأوساط لجبهة النصرة حيناً، وحيناً آخر إظهار العداء لها. وهذه الأوساط غالباً ما تجدها تتحدث عن أن لا حل للصراع الدائر في سورية إلا بسقوط نظام الأسد، إلا أنها قبلت بإقامة حكومة مشتركة مع النظام ومجلس عسكري مشترك (باستثناء الأسد ومن تلطّخت أيديهم بالدماء)، كما ظهر في رؤيتها لحل الصراع السوري في وثيقة «الإطار التنفيذي للحل السياسي» التي قدمتها الهيئة العليا للمفاوضات برئاسة رياض حجاب إلى اجتماع دول «أصدقاء سورية» في لندن (أيلول/سبتمبر 2016).
طبعاً ثمة أمثلة كثيرة تؤكد افتقاد المعارضة لرؤية أو لإجماعات سياسية متماسكة ومتوازنة، الأمر الذي يفاقم منه ضعف كياناتها السياسية والعسكرية، واعتمادها على الخارج، وغياب الروح المؤسسية والديموقراطية فيها، كما يفاقم منه إخراج الشعب من دائرة الصراع، الذي بات محصوراً بالفصائل العسكرية، ومحكوماً بصراعات القوى الدولية.
لا نقصد هنا جلد الذات وإنما لفت الانتباه إلى واقع المعارضة، والتحديات التي تواجهها، أو التي تحدّ من دورها، أدركت ذلك أو لم تدركه، ما ينعكس سلباً باضطراب رؤيتها لكيفية إدارة صراعها مع النظام، وكيفية صوغ علاقاتها مع الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة فيه، كما افتقادها لإجماعات سياسية بشأن المستقبل، أي طبيعة نظام الحكم، والعلاقة بين مكوناتها المجتمعية، وحقوق المواطنة، وكيفية تداول السلطة والفصل بين السلطات.
ويمكن هنا ذكر ثلاثة مسائل تدل على ذلك، أولاها، أن المعارضة، منذ البداية، اشتغلت وفق حتمية واحدة تقول بإمكانية إسقاط النظام دفعة واحدة، حتى أن البعض تحدث مراراً عن «ساعة صفر»، في حين أن هذه المعارضة كانت مشتتة وضعيفة وتفتقد لرؤية سياسية واضحة حتى عندما كانت تبدو قوية، والحديث عن كيانات أساسية تحكمت بمسار الثورة أو تصدرت مشهدها، وليس عن أفراد. وبديهي أن هذه النظرة كانت تصدر عن سذاجة سياسية، تبالغ باحتمالات التدخل الخارجي، ولا تأخذ في اعتبارها حجم التشابك بين النظام وتوجهات أطراف عربية وإقليمية ودولية، كما كانت تصدر عن مبالغة غير عادية بالقوة الذاتية، ناهيك عن اعتقادها بأن الثورات يمكن أن تنجح في خبطة واحدة، أو من المرة الأولى، ولعل هذا الاعتقاد هو الذي أخذ الثورة نحو الحد الأقصى، سواء في أشكال الصراع مع النظام، أو في الرؤية السياسية التي تتعلق بإسقاطه، بدلاً من الحديث عن إسقاط الأسد، مع التقدير أن ثمة تشابك بين الاثنين، لكن الدلالة السياسية للثانية أصوب من الأولى، من دون أن ننسى أن المعارضة وصلت إلى هذا الاستنتاج لكن متأخّرة، في الوثيقة التي قدمتها الهيئة العليا للمفاوضات باسم المعارضة. وفي الغضون، فإنه لمن المؤسف حقاً أن المعارضة، في طرحها هذا، لم تنتبه في الوقت المناسب إلى مخاطر الذهاب نحو الحد الأقصى في الصراع المسلح، لأن ذلك الوضع هو الذي سهل على النظام استخدام ترسانته العسكرية بشكل متوحش، وفتح البلد على مصراعيه للتدخل الإيراني والروسي، كما أن هذا الوضع هو الذي سهل له البطش بما اعتبر «مناطق محررة»، في حين أن أغلبيتها كانت مناطق محاصرة، سيما أن المعارضة العسكرية لم تستطع بسيطرتها عليها أن تقدم نموذجاً لسلطة أفضل من النظام، ناهيك بأن هذا الوضع سهّل وسرّع تشريد ملايين السوريين، وأفقد الثورة بُعدها الشعبي، ما شكل واحدة من أهم نقاط ضعف ثورة السوريين.
ثانياً، تطرح الأوساط ذاتها أن أي حل للصراع السوري ينبغي أن يتأسس على إسقاط النظام، وهذا أمر مشروع وعادل، بيد أن السؤال هنا للمعارضة عن كيفية إسقاط النظام، ومثلاً، فإذا كانت تمتلك القوى، في المدى المنظور لإسقاطه، فماذا تنتظر إذا؟ أما إذا كانت تعوّل على الحتمية التاريخية، فهي حمالة أوجه، وقد تمتد لعقد أو لعقدين، مثلاً. أما غير ذلك، في حقيقة الأمر، فإن المعارضة تبدو هنا كمن يطلب ذلك من القوى الخارجية، الدولية والإقليمية، التي تعوّل عليها، علما أن هكذا طرح ثبت عقمه منذ بداية الثورة، ولا يوجد ما يشير إلى تغير معطياته، أي إنه يبقى طرحاً شعاراتياً، أو إرادوياً. وبديهي أن هذا الطرح يتطابق أو يتلازم مع الطرح الأول المتعلق بإسقاط النظام من الثورة الأولى، أو من التجربة الأولى، بغض النظر عن إمكانيات ذلك، وهو الذي أدى إلى توتير جهد ثورة السوريين إلى أقصاه، واستنزاف قواهم مرة واحدة، وضمنه تحميلهم أكثر من قدرتهم. وفي الواقع، وكما حصل في التجارب التاريخية، فإن الثورات يمكن أن تحقّق مراميها بطريقة تدرّجية، مباشرة حيناً، وغير مباشرة حيناً أخر. وبشكل أكثر تحديداً أن المهم هنا السير على السكّة التي تؤدي إلى إسقاط النظام بأقل أثمان ممكنة، وهذا حصل في الأشهر الأولى للثورة، أو في عامها الأول، بانكسار الخوف في قلوب السوريين، ومع صيحة الحرية الأولى: «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهذه اللحظة كان يمكن انتظار الظروف والمعطيات المناسبة للاستثمار بها والبناء عليها، وتطويرها، بالاستغناء عن كل ما حصل في ما بعد، وأودى إلى كل هذه الأهوال والمآسي التي عاشها السوريون. والمعنى أن أي أن ثورة سورية بوتائر صراعية أقل، وبتطورات كفاحية متدرجة، مع بقاء السوريين في أرضهم، وحرمانهم النظام من استخدام أقصى قوته كان أفضل بكثير مما حصل، لأنه بالتجربة أدى إلى كارثة على السوريين، وعلى ثورتهم. ولا أقصد من هذا الكلام أنه كان بالإمكان هندسة أو تخطيط الثورة، بطريقة تنظيرية، ووفقاً لتنميطات معينة، ولكن أقصد التمييز بين التطورات العادية الطبيعية لهذه الثورة، وبين المداخلات والتأثيرات الخارجية التي حكمتها وسيطرت على مساراتها واضرّت بها.
ثالثاً، في الآونة الأخيرة، ومع صدور نوع من «خريطة طريق» دولية، تعبّر عن تحول الولايات المتحدة نحو الانخراط المباشر، السياسي والدبلوماسي والعسكري في الصراع السوري، بالتوافق مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا والسعودية والأردن، من منطلق تغيير المعادلة التفاوضية، ومن منطلق صوغ دستور جديد، وإجراء عملية انتخابية بضمانات ومعايير دولية، إذا بهذه المعارضة بالذات تعلن رفضها أو اشتراطاتها على هذه الخطة، وطلبها البقاء عند مفاوضات جنيف، التي سبق أن رفضتها سابقاً، لتوهّمها بقدرتها على إسقاط النظام في غضون أشهر. وفي الواقع يصعب فهم هذا الموقف، فهل هو ناتج عن اقتناع لدى المعارضة بإمكانية إسقاط النظام بقدراتها الخاصة؟ أو إمكانية قبوله في مفاوضات ظل يرفضها طوال ثماني جولات في ستة أعوام؟ أم أن هذه المعارضة ما زالت تشتغل وكأن المجتمع الدولي مطالب بتقديم السلطة لها على طبق من فضة؟ والفكرة هنا أن المعارضة معنيّة بالبناء على هذه الخطة وتطويرها، وإيجاد التقاطعات معها، التي تخدم مصالح الشعب السوري في التغيير السياسي، بدلاً من مجرد الرفض الذي ليس له معنى، وبدلاً من المطالبة باستمرار دوامة المفاوضات العبثية، التي لم ينتج عنها شيئاً. ومعلوم أن «خطة الطريق» تلك تتضمن تغيير النظام، من منطلق صوغ دستور جديد، يتأسس على تقليص صلاحيات الرئيس وتبني النظام البرلماني والفصل بين السلطات وتداول السلطة، واللامركزية وإجراء انتخابات بضمانات ومعايير دولية، واحترام حقوق المواطنة، مع التذكير بأن هذه الخطة أفضل من تلك التي طرحتها المعارضة في وثيقتها المذكورة، والتي تتأسس على المشاركة في حكومة مع النظام، في وضع يبدو فيه النظام أكثر سيطرة على وضعه من المعارضة. وحقاً غير مفهوم سرّ إصرار بعض أوساط المعارضة على تشكيل هيئة الحكم الانتقالية قبل صوغ الدستور، فلا أوضاعها أحسن من أوضاع النظام، ولا قدرتها على السيطرة تؤهلها لاستثمار تلك المرحلة أكثر منه.