مارسَ مدير المخابرات التركية حقّان فيدان على مدار ستة أيام في أنقرة، ضغوطاً مختلفة على ممثّلي الفصائل المسلحة السورية، وذلك انطلاقاً من أنه يفاوضهم بصفته مكلّفاً رسمياً بذلك من رئيس الدولة التركية.
وأتبعَ فيدان خلال اتصالاته بهم الهادفة لإقناعهم بالذهاب إلى أستانة متجاوزين شرطهم وقفَ إطلاق النار أوّلاً، جملة تكتيكات تمثّلت أولاً بإجراء اتصالاته بهم تحت عنوان أنّها استشارات وليست مفاوضات، وثانياً، تعمَّد لقاءَهم فرادى وليس مجتمعين وحادثَهم على اساس صفتهم الشخصية وليس الحزبية، وغايتُه من ذلك الاستثمار في مَونة أنقرة على كلّ منهم. لقد ألقى فيدان بثقل تأثيره على قادة فصائل المعارضة الذين أتوا إلى أنقرة تمهيداً لاتخاذ القرار بالمشاركة في أستانة، ونجح إلى حدّ بعيد في هذه المهمة.
وقبل عرضِ الأفكار الرئيسة التي ساقها فيدان امام قادة الفصائل لإقناعهم بالمشاركة في استانة، يجدر التوقف عند جملة معطيات تركية طارئة تساهم في إيضاح خلفية التحوّل في موقف أنقرة تجاه الأزمة السورية، وأبرزها أنه بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، نقَل الرئيس رجب طيب أردوغان ملف إدارة الأزمة السورية ومسؤولية الإشراف على الحدود المشتركة مع سوريا، الى المخابرات، ذلك انّ الجيش التركي دخل بعد الانقلاب، مرحلة إعادة هيكلة وحملة تطهير كبيرة.
اضِف الى انّ قيادة المخابرات بلوَرت تقديراً للموقف تحذيراً من أنّ استمرار الفوضى في شمال سوريا أصبح يهدّد أمن تركيا الداخلي، بدليل تعاظمِ التفجيرات الانتحارية في تركيا مضافاً إليها عملية اغتيال السفير الروسي التي ردّت المخابرات التركية اسبابها الى مغالاة الإعلام التركي في تحريض الرأي العام، وشحنه في اتّجاه ضرورة عملِ شيء من أجل حلب.
تلفت المخابرات التركية الى انّ ردود فعل الإعلام التركي على حلب والتضامن مع «الثورة السورية» كانت أقوى من ردود فعله المستنكرة على العمليات الإرهابية في تركيا. وهو أمرٌ، في نظرها، يحضّ على إعادة تقويم السياسة التركية من سوريا واعتماد معايير جديدة في مقاربتها.
لقد هندسَ فيدان تركيبة الوفد السوري المعارض إلى أستانة وفق فلسفة تراعي تضمينَه مركباً ويرضي اوسعَ مظلة اقليمية، حيث راعى وجود السعودية فيه من خلال إسناد مهمة رئاسة الوفد لمحمد علوش وريث أخيه زهران علوش في «جيش الإسلام» الذي تدعمه الرياض ودول خليجية، وكثمنٍ لتأييد الهيئة العليا للمفاوضات المعتبرة الجسم السياسي للمعارضة بجناحيها السياسي والعسكري، دعمَ ذهاب الوفد السوري الى استانة.
وفي مقابل هذه الحصة للسعودية اسنِدت مهمة «رئاسة الوفد الاستشاري» داخل وفد المعارضة السورية، الى خالد شهاب الدين المحسوب على موسكو بحسب ما هو معروف في اجواء المعارضة السورية. وضمَّ الوفد ممثلاً عن فصيل «فرقة السلطان مراد» المعتمد بمقدار كبير لدى تركيا، والمعتبر أكبر فصائل السوريين التركمان المسلحة في سوريا.
أمّا الفصائل السنّية المسلحة الأخرى فتمثّلت بثلاث حصص متساوية تقريباً، وذلك بين السلفيين و«الإخوان المسلمين» القريبين من تركيا، وبين فصائل من «الجيش السوري الحر» المعتبر أقلّ تمسّكاً بمشروع «الحكم الإسلامي»، وهؤلاء الاخيرون لديهم علاقات متفاوتة بغرَف عمليات تديرُها المخابرات التركية وأخرى اميركية في الاردن والجزيرة السورية.
وغاب الأكراد عن الوفد، وهو ثمنٌ أرادته تركيا، وثمّة معلومات أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب لن تتمسك بتمثيلهم إسوةً بما فعلته ادارة باراك اوباما، لأنه يعتبر أنّ المساندة العسكرية التركية ضد «داعش» في سوريا هي حاجة استراتيجية.
وخلال التفاوض لتشكيل الوفد المعارض، فرَضت انقرة معادلة أنّ عملية تشكيلِه تُستَشار بها الهيئة العليا للمفاوضات، ولكن تحت سقف انّ تركيبته ستكون مختلفة عن الوفد الى مؤتمر جنيف الاوّل والثاني والثالث. وطرحت على المعارضة المسلّحة ثلاث أفكار تفسّر خفايا استراتيجية تركيا الجديدة تجاه الأزمة السورية:
ـ الفكرة الأولى، أجابت عن سؤال لماذا على فصائل المعارضة المسلحة الذهاب الى استانة؟ رأت انقرة انّ في أساس توقيع وقفِ النار في حلب كان هناك بند إخلاء المدنيين المحاصرين، ثمّ مفاوضات على وقفِ النار الذي لم يتمّ الالتزام به، وهذه الوثيقة نفسها حدّدت تشكيل وفد المعارضة الى استانة، وكشفَت انقرة انّ هذا التفاهم ابرِم بنحو متوازن، حيث اعتبَر انّ وقفَ النارِ لمصلحة المعارضة، والذهاب الى استانة هو لمصلحة النظام.
وعليه فإنّ الطرح الجديد الذي يعتبر انّ مهمّة استانة هي تثبيت وقفِ النار ووضعُ خرائطه ونشرُ مراقبين لتحديد مسؤولية من يَخرقه، هو في مصلحة المعارضة لأنه يلبّي الجزء المستفيدة منه في وثيقة الهدنة التركية ـ الروسية.
ـ الفكرة الثانية، تتعلق بوجهة نظر تركية ترى انّ الذهاب الى استانة سيعزّز مسار تباين روسي ـ ايراني بدأ يظهر في سوريا. وتراهن تركيا على انّ ادارة ترامب الجديدة ستنتهج سياسات في سوريا تشجّع التعاون التركي ـ الروسي على حساب ايران وسينتج مطالبة ايران بإنهاء أذرعتها العسكرية في سوريا عبر تمرحلٍ زمني في تخفيفه.
ـ الفكرة الثالثة، تؤكّد توافق أنقرة مع أجندة موسكو للحلّ المتّسمة بأنّها بلا شروط مسبقة، والتي تتلخّص بـ: وقفِ نار ثابت تضمنه تركيا وروسيا، ستفعله الاستانة، ومن ثمّ الانتقال الى عملية سياسية لا يشترط إطلاقها برحيل الرئيس بشّار الاسد، بل بتتالي الخطوات الآتية: مفاوضات، تشكيل حكومة انتقالية ذات صلاحيات يتّفق عليها، تحضير دستور جديد يُستفتى الشعب السوري عليه، إجراء انتخابات حرّة.
وفي رأي أنقرة أنّ التوقيت الأنسب لطرح رحيل الأسد هو عند بدء عملية إعادة إعمار سوريا التي ستشهد مفاوضات دولية عليها، ويمكن ضمن هذه المرحلة وضعُ مصير الأسد على طاولة المفاوضات لمقايضته بأنّ التمويل الدولي ثمنُه رحيل الأسد.