IMLebanon

ماذا بعد الحريري في بيروت: أكبر من استقالة.. أزمة وطنية!

ماذا بعد الحريري في بيروت: أكبر من استقالة.. أزمة وطنية!

هروب رسمي إلى الأمام: نصائح دولية بفك التصاق صورة الدولة بـ «حزب الله»

«ستاتيكو» المرحلة المقبلة قد يكون منخفض التصعيد مع تغيّر قواعد التسوية بانتظار الانتخابات النيابية

 

لماذا أراد رئيس الجمهورية العماد ميشال أن يُظهر إلى العلن موقفه الحاد حيال المملكة العربية السعودية في قضية استقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض وما تلاها؟ فالكلام عن أن الحريري «مُقيّد الحرية ومحتجز وأنه أجبر على الاستقالة» كان هو المتداول في مجالس الرئيس ولقاءاته، لكنه كان يحرص على عدم إصدار مواقف علنية عنه أو باسمه، بل كانت الصحف تتكفل بتسريب الأجواء وتكشف مساعي «خلية الأزمة» التي تشكّلت من رئيس الجمهورية وصهره وزير الخارجية جبران باسيل، ومن رئيس مجلس النواب نبيه بري، ومن عائلة الحريري في حلقتها الضيّقة, لإدارة المعركة.

خطة العمل التي وضعها الأمين العام لحزب الله لـ«خلية الأزمة» هدفت إلى التركيز على ظروف الاستقالة ووضع عنوان أساسي هو «عودة الحريري» قبل أي بحث آخر. أراد «حزب الله» أن يكسب الوقت، من جهة، لتحديد مكامن التحديات ورسم كيفية التعامل معها وسبل الردّ، وأن يعمل من جهة أخرى على تجنّب انعكاس تداعيات الاستقالة على الداخل وتفجّر عناوين ذات طابع مذهبي تؤول إلى توترات في الشارع ذات طابع مذهبي، فابتعد عن يوميات المشهد حاصراً المواقف بنصر الله نفسه، وتاركاً رئيس الجمهورية في الواجهة مع «خلية إدارة المعركة».

ثلاثة عشر يوماً كسبها «حزب الله» بحرفه الأنظار عن جوهر الأزمة  وتحويل المعركة إلى معركة عودة رئيس الحكومة وسط إشاعة مناخ أن لا قيمة لاستقالته ما دامت لم تقدّم إلى رئيس الجمهورية وفق الأصول. الفصل الأول من إدارة المعركة أضحى في نهايته مع إعلان الرئيس الفرنسي أنه سيستقبل الحريري وعائلته يوم السبت في الإليزيه، ومن فرنسا سيعود إلى بيروت لتقديم استقالته. قد يذهب هؤلاء إلى الشعور بشيء من الزهو أنهم نجحوا في إثارة معركة «تحرير الحريري» على المستوى الدولي عبر الحركة الدبلوماسية المكوكية لباسيل وعبر احتلالها حيزاً متقدماً في الإعلام العالمي. ولكن ماذا عن اليوم التالي؟

في اليوم التالي، سيصبح الجميع أمام لحظة الحقيقة أن ثمة أزمة في البلد تتخطى الأزمة الحكومية إلى الأزمة الوطنية. والرهان على أنه حين يأتي الحريري للبنان يمكن عندها العمل معه على تدوير الزوايا وتمرير الأمور بحدودها الدنيا، قد لا يكون رهاناً دقيقاً. كل من عون وبري يراهنان على إمكانية إحياء التسوية. وحده «حزب الله» بقي صامتاً في هذا الشأن، انطلاقاً من يقينه أولاً بأن اللعبة قد تغيّرت، وأنه على اقتناع وإدراك بأن الحريري، ولو عاد، لن يكون بمقدوره إعادة إحياء التسوية بذات المناخات السابقة بعد الاستقالة الصادمة والمفاجئة، التي قرأها «حزب الله» كما الآخرون بأنها قرار سعودي بقلب الطاولة، والقول بوضوح أنهم كانوا الشركاء في هذه التسوية عبر توفير الغطاء السياسي للحريري، وأن تلك المرحلة انتهت. كما أنه يرى أن الزخم  السياسي الذي رافق التسوية الماضية تبدد وتشتت بعد الاستقالة.

اليقين الثاني لدى «حزب الله» أنه لم يخرج من التسوية، ولا يعتبر تالياً أن هناك ظروفاً جديدة قد خلقت منذ لحظة التسوية إلى الاستقالة تقتضي إعادة النظر بها. فهو نجح أثناء التسوية السياسية في الاتفاق على وضع الملفات الخلافية التي تتناول الجزء المتعلق بسلاحه وبدوره الإقليمي جانباً، والانصراف إلى تسيير شؤون الناس والحفاظ على أمن البلاد. اليوم يدرك الحزب أن العناوين التي تُطرح لإعادة الإتيان به إلى الطاولة هي العناوين التي كانت محيّدة في التسوية الماضية، وستدور المعركة حولها، فيما هو يرى أن الوقت لم يحن بعد لفتح تلك الملفات الخلافية، ولن يكون لذلك في وارد القبول بإعادة إنتاج تسوية جديدة.

الحديث عن صورة المخارج الداخلية ليست واضحة المعالم، بل ليست ناضجة. ما يبدو مطروحاً كمخرج لدى العهد والقوى الكامنة ورائه هو في الوصول إلى «ستاتيكو» قوامه الاستمرار في حكومة الحريري كحكومة تصريف أعمال، وإعادة تكليف الحريري أو شخصية أخرى  لرئاسة الحكومة، من دون أن يتمكن الرئيس المكلف من تشكيل حكومة باتت تتطلب، لتبصر النور، العودة إلى الحوار حول العناوين الخلافية المتمثلة بسلاح «حزب الله» واستخدامه لبنان كمنصة للقيام بأعمال أمنية وعسكرية في الدول العربية، ولا سيما الخليجية وانخراطه في الصراع الدائر في المنطقة، ومعرفة مدى القدرة على إعادة الاعتبار إلى سياسة النأي بالنفس. وبما أن المناخات لا توحي بجهوزية «حزب الله» للذهاب في منحى تغيير استراتيجيته التي عمل عليها طويلاً، ودفع أثماناً باهظة لها ضمن بيئته من أجل تكريس نفسه كلاعب إقليمي، فإن «الستاتيكو» الذي سيطبع المرحلة المقبلة والمتوقع أن يكون منخفض التصعيد، يرجّح أن يستمر إلى حين موعد الانتخابات النيابية في أيار المقبل، والتي على أساس نتائجها وموازين القوى التي ستفرزها يمكن عندها البحث في المسار الجديد للبلاد.

غير أن تلك القراءة لما يمكن أن تكون عليه الأشهر المقبلة لا تأخذ في الاعتبار حجم التحوّلات التي حصلت وتحصل في المنطقة، والتي شكّلت إحدى العوامل الرئيسية للإطاحة بالتسوية الراهنة، أو على أقله، فتحت الباب أمام السعي إلى تعديل جوهري في التسوية يعكس في جانب منه تلك التحوّلات.

فما ينتظر لبنان على المدى القريب والبعيد لن تحدده عوامل داخلية صرفة، لأن الاستقالة في توقيتها وظروفها ومضمونها ورسائلها باتت تتخطى البعد اللبناني للحلول، وهي جزء من المواجهة الإقليمية – الدولية التي بات عنوانها واضحاً ومعلناً ويتمثل بتحجيم «حزب الله» أولاً ببعده الإقليمي، وهو البعد الذي ما عاد يمكن للبنان التغاضي عنه، وإن كان تعايش طويلاً مع عجزه حيال التعامل معه، فيما البعد الداخلي للسلاح سيكون عنواناً مكملاً.

على أن الأداء الذي انتهجه رئيس الجمهورية في تعامله مع المملكة، يشي بأن ثمة قراراً داخلياً لدى المحور الذي يمثله بالذهاب في خطوات تصعيدية، من دون التوقف ملياً عند التداعيات الفعلية على نتائج ضرب علاقات لبنان مع محيطه، فضلاً عن أنه يحمل في طياته محاولة للهروب إلى الأمام لقطع الطريق على النصائح التي سمعها رئيس الجمهورية نفسه عبر وزير الخارجية خلال جولته الأخيرة واتصالاته بدول القرار، ولا سيما الدول الأوروبية ومنها فرنسا، التي تمت الاستعانة بها، والتي حملت نصائح وتحذيرات من استمرار التصاق صورة الدولة بـ«حزب الله» لما سيرتب على ذلك من أعباءٍ وضغوطات على لبنان.

ضغوطات ستظهر بشكل جليّ في اجتماع وزراء الخارجية العرب الاستثنائي الذي ينعقد في القاهرة الأحد للنظر في الشكوى المقدمة من المملكة العربية السعودية ضد التدخلات الإيرانية وأذرعها العسكرية في شؤونها الداخلية بشكل خاص، والدول الخليجية بشكل عام، للخروج بإدانه عربية واضحة للدور الإيراني السلبي والتخريبي والذي يأتي في ضوء إطلاق الصاروخ الباليستي الإيراني الصنع من داخل الأراضي اليمنية على الرياض.

إدانة يبدو أن لبنان والعراق سيكونان الدولتين الوحيدتين اللتين ستغرّدان خارج سرب الإجماع العربي عليها!