إنتقال الرئيس سعد الحريري من الرياض إلى باريس ومنها إلى بيروت قبل عيد الاستقلال، أسدل الستارة على الفصل الأول من الاستقالة المفاجئة المعلنة من الرياض، ولكن من دون أن تلغي كل الملابسات التي أحاطت بها، والارتدادات التي أرختها على المشهد الداخلي.
الحقيقة الثابتة وسط غموض الاستقالة وكذلك ظروف بقاء الحريري في السعودية ومن ثم انتقاله إلى بيروت، هي أنه أيّاً كان العنوان لما حدث، فإنّ ما حصل دفع بلبنان الى اللحظة المصيرية، التي قد يجنح فيها البلد نحو واحد من اتجاهين: إمّا نحو العودة إلى استئناف حياته السياسية على ما كانت عليه قبل سبت الاستقالة في الرابع من تشرين الثاني الجاري، وامّا نحو المشكل الكبير الذي يتفكّك فيه هذا المشهد على نحو يمكن أن يُعرف كيف سيبدأ، ولكن لا يُعرف على أي صورة او اي صيغة سينتهي، وكيف سينتهي؟
مخزون القلق خلال الأسبوعين الماضيين كان كبيراً جداً، وكذلك مخزون علامات الاستفهام التي رافقت الاستقالة وفترة مكوث الحريري في الرياض، ومضى الاسبوعان من دون ان يتراجع منسوب هذين المخزونين ولو لحدّ طفيف. وها هي عودة الحريري تحطّ على خزان اكبر من التساؤلات حول ماهية الصورة التي سيقدمها الحريري عن نفسه عندما يطأ الأرض اللبنانية.
المتداول به بين المستويات السياسية والرسمية يدور حول احتمالين:
الأول، يستبشر خيراً في العاطفة السياسية والشخصية التي أبداها الحريري نفسه حيال روح التضامن الداخلي معه من مُريديه وخصومه على السواء، والرغبة الكبيرة التي عبّرت عنها باستمرار أجواء الوحدة الداخلية التي تجلّت خصوصاً خلال الأسبوعين الماضيين وقوله إنّ اموراً جيدة ستحصل في لبنان بعد عودته. كل هذا يؤشر إلى أنّ أزمة الاستقالة قد لا تكون من النوع المُستعصي على العلاج. وبالتالي يمكن أن تمر بشكل سَلس. وهنا العبرة تبقى في الأداء الذي يوصِل إلى هذه الإيجابية.
الثاني، قلق من أن يعكس الحريري صورة من وحي مضمون بيان الاستقالة الذي تلاه من الرياض، بما يحوّل الساحة الداخلية إلى ساحة مواجهة وعلى وجه الخصوص مع الجهة التي حددها البيان، أي مع «حزب الله». وفي هذه الحالة يمكن القول انّ المستقبل لا يبشّر بخير، وأزمة الاستقالة قد تتولّد عنها أزمة أكبر منها.
واذا كان ثمّة من تَوقّفَ مليّاً عند قول الحريري إنه «مشتاق جداً للبنان»، وقرأ بين سطور هذه الجملة المقتضبة والمعبّرة الكثير من الدلالات والكثير مما لا يقال ويُصرّح به، فإنه ينطلق منها ليؤكد انّ عودة الحريري «مضغوطة» بمجموعة امور تتجاذبه في وقت واحد:
فالحريري مضغوط أولاً باستقالته وظروفها وأسبابها الواردة في البيان الذي تلاه من الرياض، وكيفية احتواء هذا القطوع وتجاوزه.
والحريري مضغوط ثانياً بجو داخلي ضمن تياره السياسي، وكذلك ضمن حلقة الاصدقاء الذين لم يخفِ الرئيس المستقيل، أمام الإعلاميين اللبنانيين الذين التقاهم في باريس، ما يشعر به حيالهم، بل تحدث صراحة عن نيته بإجراء ما سمّاه «غربلة» لهؤلاء الاصدقاء.
والحريري مضغوط بجو التضامن الداخلي العام معه، في صورة لم يسبق للبنان أن شهد مثيلاً لها في تاريخه. هذا التضامن قال الحريري نفسه ان لا بد من استمراره. وهو بهذا الكلام يضع نفسه – قبل غيره من الشركاء – أمام مسؤولية وضع أي خطوة ينوي الاقدام عليها في الميزان، وقياس مدى تأثيرها على هذه الصورة التضامنية لمنع حدوث اي نوع من الاهتزاز أو الغباش في هذه الصورة كما في الصورة السياسية بشكل عام.
والحريري مضغوط بالتسوية السياسية التي صاغت الانتخابات الرئاسية وجاءت بالعماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وصاغت أيضاً عودة سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة بعد سنوات من الانتظار والتحضير لهذه العودة.
هذه التسوية المزدوجة، تعرضت للاهتزاز القسري وليس الطوعي. بعد بيان الاستقالة من الرياض، جاء من يرفد هذا البيان بنعي التسوية، بذريعة أنها «أطلقت يد «حزب الله» ومَكّنته من خطف الدولة»، وجَيّشت بعض الفضائيات حملة قاسية عليها، وصَبّت جام هجومها على رئيس الجمهورية بوَصفه حليف «حزب الله».
قال الحريري، بحسب ما نقل عنه الإعلاميون اللبنانيون من باريس، إنّ البند الأول في جدول أعمال عودته هو «تعديل التسوية». والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف؟ وهل سينجح في طرح التعديل؟ وأي تعديل سيطرح؟ وفي أي اتجاه؟ هل في شقّه الرئاسي ام في شقّه الحكومي؟
إن كان في الشق الرئاسي، فكيف سيتمكن من ذلك في الوقت الذي يعبّر هو شخصياً عن تقدير بالغ لرئيس الجمهورية وموقفه من أزمة الاستقالة ومن كل الملابسات التي أحاطت بوضع رئيس الحكومة خلال وجوده في الرياض؟
وإن كان في الشق الحكومي، فكيف سيكون له ذلك؟ هل في اشتراط الذهاب إلى حكومة جديدة بتركيبة جديدة تُحاكي مضمون بيان الاستقالة الذي تلاه من الرياض، وتحاكي أيضاً المواقف التي تلت البيان وقالت بحكومة بلا «حزب الله»، فهل هذا ممكن؟ وهل سيقبل بذلك سائر الشركاء ولا سيما الشريك الثاني في التسوية، أي رئيس الجمهورية؟ وكذلك الأمر بالنسبة الى الرئيس نبيه بري ووليد جنبلاط؟ وقبل كل هؤلاء هل سيقبل «حزب الله» بإقصائه ويسلّف ما يعتبره نصراً للآخرين في لحظة إرباكهم؟ بالتأكيد لا.
ثم اذا كان القصد من تعديل التسوية المحكي عنه هو «رَوتَشة» سياسة الحكومة بما يفرض المنطق القائل بالنأي بالنفس وعدم تدخّل «حزب الله» في أزمات المنطقة، وتحديداً في سوريا واليمن وغيرهما، فكيف سيتم ذلك؟ هل بتوافق القوى السياسية على «ملحق» للبيان الوزاري للحكومة يَنصّ على ذلك؟ فهل هذا ممكن؟ بالتأكيد لا.
وهل سيتم ذلك بانتزاع تعهّد من «حزب الله» والالتزام بمبدأ النأي بالنفس وسحب حضوره العسكري المباشر أو دوره وخبراته القتالية من المناطق المَشكو من وجوده فيها وتحديداً في سوريا واليمن؟ فهل هذا بالامر السهل؟ وهل ثمة في الطرف النقيض لـ«حزب الله»، او الشاكي منه، من هو مقتنع بأنّ الحزب في وارد الاستجابة – ولو الشكلية – على طرح من هذا النوع، في الوقت الذي يشعر الحزب أنه في طريقه نحو ما يسمّيه الانتصار الكامل وأنّ الاخرين في الطريق نحو ما يسمّيها الهزيمة الكاملة؟
إذاً، الحريري عائد في مهمة أكثر من صعبة، ذلك أنّ أي طروحات تعديلية للتسوية مصطدمة مسبقاً بواقع التسوية الرئاسية التي صارت ثابتة بوصول عون إلى رئاسة الجمهورية، ولم يعد من مجال لتعديل أو تغيير في هذا الواقع.
وهي مصطدمة مسبقاً أيضاً بالميزان الداخلي الذي يستحيل معه فرض أي صيغة حكومية جديدة أو أي توجّه تعديل في الصورة الحكومية الحالية، بشروط تستهدف أيّ طرف فيها. او بشعارات لا قدرة لأيّ طرف محلي على تنفيذها، او بالعناوين التي رفعها بعض النافخين في نار الاستقالة بقولهم انّ زمن المساكنة والتعايش مع «حزب الله قد أنتهى!
ربما هناك طاقة فرج وحيدة لها منفذ وحيد يؤدي إلى العودة عن الاستقالة بما يعيد إحياء التسوية السياسية والصيغة الحكومية الحالية على نحو ما كانت عليه قبل سبت الاستقالة في الرابع من تشرين الثاني الجاري؟ إلّا انّ هذا المنفذ صعب جداً على الحريري سلوكه للاعتبارات والظروف الحساسة والدقيقة التي ما زالت محيطة بخطوة الاستقالة.
إلى أين من هنا؟
أمام عدم استطاعة الحريري التراجع على طريق الاستقالة، او الإكمال بالصيغة الحكومية الحالية كما هي عليه، وأمام عدم القدرة على تعديل طفيف أو تغيير جوهري في الميزان السياسي الداخلي، تصبح الاستقالة امراً صغيراً جداً وربما ثانوياً أمام ما لم يظهر بعد.
ذلك أنّ انسداد أفق الاحتواء السريع لأزمة الاستقالة سيقود حتماً إلى أزمة تكليف، التي ستفتح بدورها على أزمة تأليف، والتي تفتح بدورها على فراغ حكومي كل شيء فيه مُباح مِن «فوضى وطلوع»، وهذا يجرّ الى الأزمة الأكبر فيما لو تَهدّد مصير الانتخابات النيابية وصار البلد على شفير الفراغ الكبير.هنا تصبح المخاطر أكبر وأعظم، وحينئذ تصبح منافذ القيامة مسدودة ما قد يطرح مصير النظام برمّته على بساط البحث، او بالأحرى من سيحمي الطائف في هذا الفراغ؟ ومن يضمن في هذه الحالة الّا تطرح فكرة المؤتمر التأسيسي كحلّ أخير للخروج من الازمة؟
بالتأكيد انّ الخاسر الأول في هذه الأجواء هو البلد، والخاسر الأكبر هو الطائف وأهله ورعاته والمستفيدون منه. امّا الرابحون الوحيدون، فهم بلا أدنى شك، المطالبون بنسف الصيغة والنظام والطائف، وهم كثر!