«من مهبط الإسراء في المسجد من حرم القدس الطهور الندي أسمع في ركن الأسى مريماً تهتف بالنجدة للسيد وأبصر الأعداء قد أحرقوا ركناً مشت فيه خطى أحمد« (صالح جودت)
ليلة إحراق المسجد الاقصى في آب قالت غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل: (لم أنم طول الليل، كنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجاً من كل مكان، ولكن عندما أشرقت شمس اليوم التالي، علمت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده).
من الواضح اليوم أنه لم يعد لدى إسرائيل شيئاً تخشاه في المدى المنظور على مستوى التهديد العسكري الجدي. على كل الأحوال فقد كان هذا واقع الحال حتى قبل التقسيم وإعلان الدولة العبرية سنة 1947، ففي حين لم يتمكن العرب من حشد أكثر من أربعين الف مقاتل، معظمهم من المتطوعين غير المدربين وغير المجربين، تمكنت منظومة «الهاغاناه»، نواة جيش الدفاع الإسرائيلي، من وضع حوالي مئة ألف مسلح في الخدمة، وكان قسم كبير منهم من العسكريين الخبراء الذين خدموا في جيوش الحلفاء في الحربين العالميتين.
النتيجة كانت إذن متوقعة، على الرغم من بعض المعارك التي سجلت كانتصارات في جعبة بعض الفيالق العربية، وعلى الرغم أيضاً من اساطير البطولات التي عشنا على خدرها لسنوات من حياتنا.
بن غوريون قال لجنوده يومها: «إن ما تحقق لنا هو نصر عظيم للشعب اليهودي، وكان أكبر مما تصورناه. لكن ذلك لم يكن بفضل ذكائكم ويجب الا تخدعوا أنفسكم. لقد تم لنا ذلك لأن أعداءنا يعيشون حالة مزرية من التفسّخ والفساد والانحلال«.
هذا هو واقع العرب وواقع كياناتهم، وهو أمر لا تبدل به لا الحماسة الجماهيرية ولا الخطابات العنترية ولا الزعماء الملهمون ولا مواقف الممانعة ولا أساطير المقاومة.
ولو راجعنا تاريخنا كعرب، من ما قبل الإسلام إلى هذا اليوم، لتأكدنا أن روح الجاهلية القبلية بقيت هي المهيمنة في معظم المحطات. بمراجعة مختصرة لعهود الإمبراطورية العربية- الإسلامية لرأينا أن الأكثرية العظمى من قادتها ماتوا اغتيالاً من منافسين لهم، ومن كان سعيد الحظ أزيح بمكيدة دون أن يقتل فمات غماً وذلاً، ومن مات بشكل طبيعي أمات من حوله كل منافس محتمل. كما أن الأكثرية العظمى من المعارك التي خاضها هؤلاء الأشاوس، كانت لسحق تمرد أو ثورة أو انفصال، وهذا كله عندما كان عرب يحكمون الإمبراطورية، أما عندما حكمها مسلمون من غير العرب، فحدث أيضاً ولا حرج.
ثالثة الأسافي كانت في القرن الماضي، عندما تحرر معظم العرب من الإستعمار التركي وبعدها الغربي، فأتى مباشرة طاعون إسمه الحكم الوطني الذي تبين بعد التجربة بأنه أفتك بدرجات من حكم الأجنبي.
ببساطة لقد نمنا على أمجاد ما هي إلا أساطير، فعشنا في الماضي، وبعضنا ظن أنه إن عاد إلى أصولية، أو سلفية ذاك الماضي، فهو قادر على تغيير الحاضر وإدارة المستقبل، يعني أنه يريد علاج أمراض الحاضر، بعقاقير لم تثبت نجاعتها حتى يوم استعملها الاسلاف الصالحون، وأن يديروا مستقبل البشرية بقهر النساء وفرض اللباس الأفغاني على الرجال وجلد كل من يحلق ذقنه.
والانكى أن بعض هؤلاء خرجوا بخطابهم الغاضب وعنفهم اللفظي وإرهابهم الأعمى لإقناع العالم بأن دواء السلف هو علاج شافٍ لكل مرض.
الضحية الكبرى كانت في كل محطة هي ناس عالمنا الذين ماتوا جهلاً وكمداً وجوعاً وسحقاً وغرقاً، وحتى من بقي على قيد الحياة أصبح ينتظر الموت فرجاً أو يسأل الله اللطف به وبأحبائه.
لكن الضحية الأخرى كانت دائماً فلسطين، بناسها ورمزيتها، بأساطيرها المتقاتلة والمتقاطعة، ببشرها التائهين بين الواقع والأساطير، بين رجاحة العقل وعقم اليقينية.
لقد خسرت فلسطين أولى معاركها عندما اعتبرت نفسها قضية العرب، فحاول العرب وفشلوا. وخسرت فلسطين مرة ثانية عندما أصبحت قضية المسلمين وقبلتهم، فتصادمت مع تاريخ سحيق من الاساطير لبشر آخرين، كانوا أعدوا عدة أقوى وأكثر ملاءمة للعصر.
وخسرت فلسطين مرة ثالثة عندما وضع نصفها خياره في معسكر الممانعة ونصفها الآخر في معسكر القبول العقيم، فتقاتل الإثنان بدل التعاون من أجل فلسطين.
على فلسطين اليوم أن تعلن تبرؤها من كل ذلك ومن كل هؤلاء، وأن تعيد النظر في خياراتها التي أثبتت عقمها أحياناً وكارثيتها معظم الأحيان.
على فلسطين أن تخرج من أسر العرب والفرس والمسلمين، ومن وهم الدولتين من جهة وعبثية الصواريخ والمتفجرات العمياء من جهة أخرى، إلى رؤية أكثر تحرراً من قيود الشعارات ومن وهم الأساطير.
ملحوظة: مفكر فلسطيني واحد اسمه «أحمد قطامش» طرح خياراً خارج التقليد وهو الآن في سجون الاحتلال، علينا دراسته.
() عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»