منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003 أصبح خيار التقسيم متداوَلاً في أروقة مراكز القرار الأميركية، وبدأت وسائل الإعلام ومعاهد الدراسات الأميركية تروّج لمجموعة من المفاهيم والأفكار التي تخدم مشروع التقسيم، وتعمل لإقناع الجمهور العراقي بفكرة التقسيم، كما يتمّ تصوير العراق كدولة مصطنعة بالإكراه من أجزاء متنافرة.
يؤكّد بعض المسؤولين الأميركيّين بأنَّ هذه المساحة الجغرافية التي تمتدّ عليها الدولة العراقية لن تشهد الإستقرار من دون تجزئتها إلى دويلات قائمة على الإنتماءات الطائفية والإثنية.
فأوّل مَن رسم مشروع التقسيم في العراق هو الحاكم المدني الأميركي بول بريمر من خلال إنشاء مجلس الحكم الذي أرسى دعائم نظام المحاصَصة الطائفية وانساق المسؤولون العراقيون وراءَ هذا المخطط، وبذلك غاب مفهوم دولة المواطنة.
وبدلاً من أن تكون الكفاءة والإخلاص محكاً في توزيع المناصب والمراتب العليا صارت الإنتمائات الطائفية هي التي تتحكّم بهياكل الدولة. وبما أنّ السياسيين في العراق لم يمتلكوا مشروعاً وطنياً يحتمي به المواطن ولم يتجاوزوا عقلية مرحلة المعارضة، ولم تتبلور لديهم الرؤية لإدارة الدولة وفقاً لمنهج مدني، فقد راهنوا على انبعاث النعرات الطائفية والمذهبية والقومية لاكتساب المشروعية، وتمّ إقصاء المواطن لمصلحة الكائن الطائفي والمذهبي.
عبثية الإنتخابات الشكلية
المواطنون تحمّسوا للمشاركة في الإنتخابات التي أجريت في العراق منذعام 2005، وكان الأمل يحدوهم بأنّهم سيساهمون بأصواتهم في بناء دولة جديدة منبثقة من إرادتهم تعمل لإيجاد حلول جذرية لتلك المشكلات التي يعاني منها المواطن وعلى رأسها إنعدام الأمن.
لكنّ تجارب العمليات الإنتخابية كشفت بأنَّ إرادة المواطن العراقي لا تصنع النظام ولا تُحدّد طبيعته، بل هناك جهات خارجية تفرض أجندتها وتعمل من خلال الأحزاب التابعة لها فى العراق لترسيخ الولاءات الطائفية، كما أنَّ ما زعمناه ديموقراطياً في العراق ليس إلّا مجموعة من الإجراءات الشكلية المتمثلة بعملية التصويت، التي قد تؤدّي إلى تعقيد الأزمات وإحداث مزيد من الشروخ بين مكوّنات العراق، بدلاً من أن تتحوّل العملية الإنتخابية إلى آلية لتداول السلطة بطريقة سلمية.
وما حصل عقب نتائج إنتخابات 2014 من ظهور «داعش» وسقوط مدينة الموصل وإنفلات الوضع الأمني يشهد على رثاثة الوعي الديموقراطي لدى السياسيين في العراق، كما أنَّ بؤس التجربة السياسية في العراق يضعنا أمام حقيقة مرّة، وهي أنّ الديموقراطية كغيرها من المفاهيم السياسية في بلداننا قد أُسيء استخدامها ولم تتّخذ طابعاً سلوكياً في ممارسة العملية السياسية، بل ظلّت في دائرة الشعارات ولا يمكن أن تنجح فكرة الديموقراطية مع تلك العقلية التي تمارس السياسة من منطلق أقلية طائفية وأكثرية طائفية، لأنَّ مفهوم الأقلية والأكثرية لا يستقر على شكل ثابت في الأنظمة الديموقراطية.
يعتبر جورج طربيشى أنّ ديمومة المنافسة الديموقراطية مرهون ببقائها أفقية وببقاء الطرفين اللاعبين فيها موقّتين في نصابهما الأكثري أو الأقلّوي، بخلاف ما هو قائم في العراق حيث إنّ موقعك الطائفي هو ما يحكم عليك في أن تكون بصفّ الأكثرية أو الأقلية. لذلك فإنّ الديموقراطية بهذه الصيغة عجزت عن أن تصبح عاملاً لتنظيم حال التنوّع العراقي وتعزّز مفهوم المواطنة.
«داعش» وتجدّد سؤال التقسيم
صرّح أحد الوزراء بأنّ الإرهابيين يتوافدون الى العراق من إثنتين وأربعين دولة من دون أن يوضح تلك العوامل التي ساهمت فى تحويل العراق إلى حاضنة لظاهرة التطرّف الديني. لماذا تجد تلك الجماعات الإرهابية في العراق أرضية مؤاتية لإعلان دولة الخلافة الممتدة من الرقة إلى الموصل؟ هل هناك مؤامرة على العراق لتقويض وحدته من خلال توظيف هذه المجموعات من أطراف إقليميين ودَوليين؟
قد نقتنع بهذا الرأي، لكن لولا وجود الفساد الإداري في المؤسسات الحكومية وإنهماك السياسيين بتوزيع كعكة المناصب وإهمالهم مشكلات وهموم المواطن والتنقيب عن التأريخ القديم لتسويغ منهجيتهم الطائفية، لما نجح الإرهابيون في إنشاء دولة الخلافة التي ضربت العراق من خاصرته الرخوة. والأدهى أنّ ساسة العراق حتى بعد ظهور تهديدات «داعش» فشلوا مرة أخرى في إيجاد خطاب وطني يسمو على ولاءات مذهبية وطائفية.
من هنا يتجدّد الحديث مرة أخرى حول احتمال تقسيم العراق كحلّ وحيد لمعضلة ما يُسمى حالة نشوء كيانات متمظهرة بداعش وغيرها من المجموعات الإرهابية، لأنّ العراق بوضعه الراهن وما يمرّ به من حال اللاإستقرار والنزاعات المذهبية والقومية والجهوية، سيكون بيئة خصبة لإنتاج مزيد من الأفكار المتطرّفة.
لكن إذا نجحت إستراتيجية التقسيم في العراق لن تتوقف في حدود هذا البلد، بل ستمتدّ إلى بلدان مجاورة، لأنّ التركيبة السكانية لهذه البلدان لا تختلف عن العراق من حيث التنوّع الإثني والمذهبي والديني، ناهيك عن إحتمال بدء مرحلة جديدة من الصراعات والإحتراب داخل تلك الكيانات التي تنشأ على حطام الدولة العراقية.
وإنَّ وجود حال التجانس القومي والمذهبي والطائفي لا يمنع وقوع مزيد من الإنقسام داخل كيانات جديدة كما لا تنتهي تلك الأزمات التي يرزح تحتها العراقيون، لأنّ العقليات التي وراء توليد الأزمات تعيد إنتاج نفسها وتدير الكانتونات الجديدة.
قد يكون الحلّ الوحيد لمشكلة العراق يكمن في ظهور وعي جديد مناقض للتفكير الطائفي، وقد يكون الحراك الجماهيرى الذي تشهده مناطق عدّة في العراق مخاضاً لهذا الوعي.