لبنان في إجازة حتى إشعار آخر. فكلّ شيء مقفل… القصر والسرايا والمجلس، إلّا أنّ البعض يُصرّ على البحث عن المفاتيح، وعلى رغم أنّ الوقت يدهم الجميع ويُهدّد البلد بالغرق، يفتّش الدستوريون عن خيارات أخرى علّها تُحدث ثقباً رفيعاً تعود من خلاله عجَلة الدولة إلى الدوران… ومن هذه الخيارات، استقالة الحكومة.
أمّا لماذا وكيف يمكن لحكومة مستقيلة أن تكون بداية حلّ للأزمات، فيُجيب المراقبون أنّ عمل الحكومة المستقيلة الذي سيُصبح تصريفاً للاعمال سيكون أكثر إنتاجاً من عمل حكومة غير مستقيلة أصابَها الشلل بسبب التعطيل المتعمَّد الذي يمارسه وزراؤها، إنْ لم نقل أغلبية وزرائها، بسبب الضغوط السياسية التي تمارَس عليهم، ويمارسونها هم بدورهم عليها، فيتقاعسون عن واجبهم الحكومي ويُمعِنون في نسف المؤسسة الوحيدة المتبقية والقادرة على ضبط عجَلة قيادة سفينة الدولة التي تئنّ تحت وطأة الحِمل الثقيل.
حكومة تصريف أعمال
ماذا تستطيع حكومة تصريف الأعمال أن تفعل أكثر ممّا تفعله الحكومة الحاليّة؟ تقول مراجع دستورية إنّ الوزراء في الحكومة المستقيلة سيُضطرّون الى تسيير اعمال وزاراتهم، إذ يصبح الوزير مرغَماً على القيام بذلك من دون أن يكون مُلزَماً بالاجتماع مع نظرائه لاتّخاذ قرار، إنْ بتذليل عقبات داخل وزارته أو لناحية تسيير شؤونها وملفّاتها العالقة، وقد استطاعت حكومات تصريف أعمال سابقة في الماضي تسيير أعمال الوزارات والحسمَ في قرارات كثيرة، خصوصاً بعد استقالة حكومة الرئيس عمر كرامي عام 2005 التي استطاعت تصريف الأعمال لإنهاء ملفات عالقة، وقد جهدَت في ذلك الوقت لإزالتها.
الطائف قلّصَ دور تصريف الأعمال
إلّا أنّ الخبراء الدستوريين يعتبرون أنّ حكومة تصريف الأعمال لا صفة دستورية لها، وهي تصبح كالإدارة السياسية للبلاد، إنّما لا يمكنها القيام مقامَ الحكومة الشرعية التي يحقّ لها وحدها التوقيع في النهاية عند فضّ العروض أو عند تلقّي الهبات وقضايا أخرى توازيها أهمّية.
المرجع الدستوري الدكتور بول مرقص يقول في هذا السياق لـ«الجمهورية»: إنّ تحويل الحكومة الى تصريف الاعمال يَجعل من إمكانية الاجتماع واتّخاذ المقرّرات أكثرَ صعوبةً من الناحية الدستورية، لأنّ الدستور الجديد عام 1989، والذي أتى نتيجة اتفاق الطائف، أعطى مفهوماً ضيّقاً أكثر لحكومة تصريف الاعمال، أكثر ممّا كان عليه قبل الطائف.
لا بل جاء في نصّ صريح أنّ تصريف الاعمال الذي هو في الاساس تحديد عمل الحكومة ينصّ على أنّ الحكومة وعند اعتبارها مستقيلة (أي إذا استقال رئيسها أو فقدت أكثر من ثلث عدد أعضائها، أو بوفاة رئيسها، أو عند بدء ولاية رئيس جمهورية أو مجلس نواب، أوعند نزع الثقة منها عند إقالة عدد من الوزراء) تصبح عندئذ حكومة تصريف أعمال بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال.
الأمر الذي يجعل من انعقادها أمراً مستعصياً إلّا في حالات الضرورات القصوى، وفي حال انعقدت لا تتّخذ قرارات يمكن لها تأجيلها خشية أن تحَمِّل الحكومة المقبلة تبعات هكذا قرارات.
في المقابل، قد تنظر حكومة تصريف الأعمال بكلّ حالة على حِدة، فإذا كانت القضية المعروضة لا يمكن تأجيلها وتلحِق ضرراً كبيراً في المرفق العام، على الحكومة عندها أن تتّخذ فيها قراراً ولو كانت حكومة تصريف أعمال. لذلك يقول النص الدستوري بما يخص تعريف تصريف الأعمال في الفقرة الثانية من المادة 64 «لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلّا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال».
حكومات الحرب صَرّفت الأعمال
الجدير ذكره أنّه في العام 1975 التأمت الحكومة وكانت حكومة تصريف أعمال، والتأمت أيضاً في جلسات قبل الحرب، وعلى رغم أنّها كانت حكومة تصريف أعمال فقد أقرّت رفعَ سنّ تقاعد القضاة عام 1975، وقبل ذلك كانت الحكومة قد أقرّت الموازنة (1969)، إلّا أنّه أصبح مؤكّداً أنّ ما قبل الطائف غير ما بعده، لأنّ الطائف جاء بالفقرة 2 من المادة 64 ليُقلّص حدود تصريف الأعمال، وهذا التحديد لم يكن قبلاً، وتبعَه التعديل الدستوري لعام 1989 الذي أرسى دستوراً جديداً.
شَرعنة التقاعس
بعد هذا السرد الدستوري لِما كان قبل الطائف وبعده، لم يعد يمكن الاتّكال على ثغرة منقِذة في حكومة تصريف الأعمال، كما لا يمكن التكلّم عن أيّ إيجابية في استقالة الحكومة بعد شِبه إجماع من الخبراء الدستوريين والقانونيّين على أنّ المطالبة باستقالة الحكومة يسمّى اليوم شَرعنةً للتعطيل وإسباغَ شرعيةٍ على تقاعس الحكومة وإعطاءَ شرعية لعدم الاجتماع وعدم اتّخاذ القرارات الملزِمة.
وفي «المفهوم اللبناني» ستتذرّع الحكومة ساعة تشاء بأنّها لتصريف الأعمال ويتعذَّر عليها الانعقاد، وهذا ينسحب على الوزير الذي إذا استقال أو أقيل سيقوم مكانه وزير بالإنابة «متقاعس بالأصل والوكالة»، ليقول «لا أستطيع فعل شيء، فالوزارة مستقيلة وأنا وزير بالإنابة».
لا بديل في غياب الرئيس
أجمع الخبراء الدستوريون بعد استطلاع آرائهم على ضرورة عدم إعطاء أعذار قانونية ودستورية لوزراء تقاعسوا عن احترام القانون والدستور، خصوصاً في الظرف الحاضر، إذ لا بديل في غياب رئيس الجمهورية، كما أنّ قبول مرسوم استقالة رئيس الحكومة هو «حق مصان» لرئيس الجمهورية وحدَه وهي «صلاحية محفوظة للرئيس» حدَّدها الدستور، وبالتالي ليس هناك من يحلّ محلّه، لأنّ الحكومة غير قادرة على الانتقال. في المقابل، يمكنهم الاستقالة إنّما لن يعود هناك عجَلة دستورية للدفع في تعيين رئيس وزراء جديد، وبالتالي لن يعود هناك إمكانية لتأليف حكومة.
والجدير ذكرُه أنّ رئيس الجمهورية وفقاً للفقرة 3 من المادة 53 من الدستور يصدِر مرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء منفرداً، وفي الفقرة 5 من المادة نفسها يصدِر منفرداً المراسيم بقبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة.
فضلاً عن أنّه في الفقرة الرابعة من المادة المذكورة يُصدِر الرئيس بالاتفاق مع رئيس الحكومة مرسومَ تأليف الحكومة… وفي ظلّ تفريغ رئاسة الجمهورية راهناً، من يمكن أن يصدر هذين المرسومين منفرداً؟! وكيف لهُ، طالما هو غير موجود، أن يُصدر بالاتحاد مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تأليف الحكومة الجديدة؟!
وبالتالي هناك ثلاث عقبات أمام إعادة تحريك العجَلة الدستورية في حالة استقالة الحكومة اليوم، فيما حكومة تصريف الأعمال ستضيف الثغرات ولن تستنبط الحلول! أمّا المصِرّون على البحث عن مفاتيح القصر والمجلس والسرايا، فعليهم التفتيش عن مفتاح آخر… في مكان آخر.