لا يزال رئيس الحكومة سعد الحريري غائباً أو مغيّباً وبالأحرى محتجزاً، لكي لا نقول إنّه تحت «الإقامة الجبرية» في المملكة العربية السعودية، وذلك بعد أسبوع على إعلان استقالته يوم السبت الماضي من الرياض.. ولا يزال رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يعقد المشاورات المكثّفة والمتواصلة في قصر بعبدا مع القيادات الوطنية والشخصيات السياسية والحزبية والفاعليات، وسفراء دول الخارج بمن فيهم القائم بالأعمال السعودي وليد البخاري، للبحث في النتائج المتأتية عن استقالة الحريري من الخارج، والخروج بالحلّ السياسي والدستوري المناسب للأزمة المفتعلة التي أوقعت المملكة لبنان فيها، بهدف إثارة حرب أهلية سنية ـ شيعية فيه والإطاحة بـ «حزب الله» الذراع الإيرانية في المنطقة، كما تقول.
أمّا بدء الحرب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد، وتحديداً بين السنّة والشيعة، على ما كان متوقّعاً فور إعلان هذه الاستقالة بهدف المطالبة داخلياً بنزع سلاح «حزب الله»، لا سيما من فريق 14 آذار المناهض للحزب، فلم ولن يحصل، على ما تقول أوساط ديبلوماسية غربية عارفة، نظراً الى الوحدة الوطنية التي أظهرها الشعب اللبناني، والوعي الكافي من خلال الالتفاف حول رئيس حكومته والمطالبة بعودته، أو باستعادته فوراً. فيما اعتبر رئيسا الجمهورية ومجلس النوّاب أنّ الاستقالة غير مقبولة، أي كأنّها لم تكن الى حين عودة الحريري وشرح ظروف وملابسات هذه الاستقالة، علّه يُمكن التوصّل الى إيجاد حلول للأسباب التي دفعته اليها.
وتقول الاوساط انّه مع عودة الحريري يُمكن للقوى السياسية في البلاد الجلوس معه وتفنيد الأسباب بنداً بنداً في محاولة لعودته عن الاستقالة، علماً أنّ أي رئيس حكومة سابق في لبنان لم يعد عن استقالته، رغم أنّه تبقى هناك دائماً «المرة الأولى». لكن في الوقت نفسه، أكّدت الاوساط أنّ كلّ المعطيات تشير الى أنّ عودة الحريري لن تكون قريبة لأنّه في حال حصلت سيكون الجميع معه والى جانبه، وهذا ما لا تريده المملكة في الوقت الراهن، لهذا فإنّ الأمور ستراوح مكانها ما يتطلّب من الجميع المزيد من الصبر. فالمملكة السعودية التي اتهمت إيران و«حزب الله» بوضوح في بيان استقالة الحريري لن تدعه يخطو خطوة نحو بيروت قبل أن تسمع الجواب من طهران والحزب على إدانتها لهما.
والمملكة التي تتذرّع بأنّ سلاح «حزب الله» ليس سلاحاً لمقاومة إسرائيل بل هو يُستخدم في حروب دول المنطقة، كما استُعمل في لبنان خلال أحداث 7 أيّار 2008 الشهيرة، لديها شرطان أساسيان، على ما كشفت الأوساط نفسها لكي «تُفرج» عن الحريري ولعودة الحياة السياسية في البلاد الى طبيعتها. وهذان الشرطان هما: أولاً أن يعترف لبنان بأنّه بلد عربي (علماً أنّ هذا ما ينصّ عليه دستور البلاد وليس من أي شكّ في ذلك) ويُبرهن بالتالي عن عروبته وعدم ولاء أي فريق فيه الى أي بلد آخر غير عربي، وتحديداً إيران. والثاني، العمل على نزع سلاح «حزب الله» من الداخل، وإن استدعى الأمر تدخّل مجلس الأمن الدولي، كونه يُقلق إسرائيل من جهة، كما يُقلق المملكة من جهة ثانية، من خلال وجوده على مقربة منها في اليمن.
وهذان الشرطان إذا ما «نفّذهما» لبنان أو على الأقلّ وعد بتنفيذهما في أسرع وقت ممكن، فإنّ المملكة تُطلق سراح البلاد عندئذ. علماً أنّ غالبية المكوّنات السياسية في البلد باتت مقتنعة بأنّ الأولوية اليوم هي لعودة الرئيس الحريري الى لبنان، وبعد ذلك يُمكن مناقشة أمر نزع سلاح الحزب على طاولة الحوار. غير أنّ الجميع يعلم بأنّ وقت مناقشة مستقبل هذا السلاح لم يحن بعد، ولن يحصل في المرحلة الراهنة ما دامت إسرائيل مستمرّة في احتلال الأراضي اللبنانية لا سيما مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وتُمعن في خروقاتها اليومية لسيادة لبنان برّاً وبحراً وجوّاً.
وفي رأي الاوساط، فإنّ نصّ استقالة الحريري قد أوضح في مضمونه هذه الأمور، وأرسل الرسائل الى كلّ من إيران والحزب في هذا السياق، عندما قال رئيس الحكومة إنّه يشعر بوجود دولة داخل الدولة، وإن إيران تزرع الفتن والدمار وتتدخّل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية وتسيطر على مصير دول المنطقة ولديها رغبة جامحة في تدمير العالم العربي، وبأنّه بالتالي لمس ما يُحاك في الخفاء لاستهداف حياته، أي أنّه أعرب عن خشيته من تعرّضه للاغتيال، ما يُبرّر اتخاذ قرار غيابه عن لبنان، كما أراد أن يوحي، ويُزيل تهمة «الإقامة الجبرية» أو احتجازه من قبل العاهل السعودي.
أمّا وعده بجولة وجولات حافلة بالتفاؤل والأمل بأن يكون لبنان أقوى مستقلاً حرّاً، لا سلطان عليه إلا لشعبه العظيم، يحكمه القانون ويحميه جيش واحد وسلاح واحد، ففتح الباب على احتمالات كثيرة، على ما أضافت الاوساط، منها أنّ الحريري لن يعود قبل تحقيق مسألة «السلاح الواحد» وهذا الأمر يتطلّب وقتاً طويلاً، وقد يعني بالتالي إعلان المملكة الحرب على إيران من البوّابة اللبنانية، أو تهديدها بضرب الحزب في لبنان واليمن وأينما وُجد.
وتكشف الاوساط انّ ما لم يقله الحريري في خطابه يفوق أهمية بعض ما قاله لا سيما إغفاله لأزمة النازحين السوريين في لبنان التي شكّلت موضوع خلاف بين طرفي النزاع، إلاّ أنّه قرّر وضعها جانباً تجنّباً لاهتزاز الحكومة. علماً أنّ فريق 8 آذار كان يُروّج لضرورة التفاوض مع الحكومة السورية لإعادة النازحين الى المناطق الآمنة في سوريا، فيما فريق 14 آذار كان يُعارض هذا الأمر رغم أنّه يصبّ أولاً في مصلحة لبنان الذي لم يعد قادراً على تحمّل أعباء النزوح المتفاقمة يوماً بعد يوم، متذرّعاً بأنّه يريد اللجوء الى مجلس الأمن لحلّ هذه الأزمة، في حين أنّه كان يقوم بذلك في الحقيقة إرضاء للمملكة والدول الكبرى الحليفة لها التي تُعارض أساساً فكرة عودة النازحين من لبنان ودول الجوار الى سوريا، ليس خوفاً على سلامة هؤلاء، إنّما كون هذه المسألة تُعوّم النظام السوري. في الوقت الذي تقوم هذه الأخيرة في المرحلة الراهنة بكلّ مساعيها من أجل استعادة كلّ المناطق التي فقدتها في سوريا مع خسارة التنظيمات الإرهابية والمعارضة أمام قوّات النظام، علّها تتمكّن من تحقيق بعض المكاسب التي أفقدتها إيّاها إيران وروسيا في سوريا، لكن دون جدوى.
ولأنّ المعلومات كانت تشير الى قُرب التفاوض مع الحكومة السورية من أجل إعادة النازحين الى بلادهم على مراحل، لا سيما بعد أن غسل مجلس الأمن يديه أمام نداء الرئيس عون في نيويورك أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وذلك بسعي من «حزب الله» الذي لديه مصلحة كذلك في عودة النازحين، وكون خسارة السعودية باتت كبيرة في دول المنطقة من اليمن الى العراق وسوريا ولبنان قامت قيامتها وافتعلت أزمة استقالة الحريري التي أعادت البلاد الى الوراء بعد أن كانت قد قطعت شوطاً لا بأس به الى الأمام.